قبل انعقادها الأسبوع الماضي في ويلز ببريطانيا، اعتبر الكثيرون من خبراء الشؤون الاستراتيجية في واشنطن أن قمة حلف «ناتو» هذه هي الأهم منذ الحرب الباردة.
لتزامنها مع بلوغ الأزمة الأوكرانية ذروتها وما تنطوي عليه من تحديات، فضلاً عن إمساك روسيا بزمام المبادرة فيها، وضع فعالية الحلف ومصيره على المحك. وبالتالي كانت التوقعات أن يثبت الحلفاء بأن هذه المؤسسة «مجدية» ومتماسكة وقادرة على الردع، كما تكهن زبغنيو بريجنسكي، أحد كبار الحرس القديم لـ«ناتو» الحريص على ترسيخه وتفعيله.
لكن الحصيلة لم تكن عند حسن الظن، باعتراف العديد من المراقبين المستقلين في تقييمهم لنتائج القمة. كانت استمراراً لحالة الهبوط. الاستنتاج، في ضوء عدم القدرة على مواجهة التحدي كما يسمونه، أن هذا الحلف دخل سنّ الشيخوخة. ليس لأن قدراته العسكرية تضاءلت أو تراجعت في النوعية.
على العكس هي متفوقة. لكن المصالح تداخلت، وباتت تتغلب على الرابط الأمني الجامع الذي كان والذي فقد قوة جاذبيته بغياب علّة وجود الحلف الأصلية. انتهاء زمن التناحر أدّى إلى ضمور الالتزام بموجبات التصدي. وبالتالي إلى نفاد صلاحية هذا التكتل العسكري عملياً. والباقي مكابرة.
أحد أبرز المؤشرات التي توقف عندها المراقبون كان انفضاض القمة من دون صدور بيان واضح قاطع بدعم أوكرانيا عسكرياً. لا أوباما يعتزم، حتى الآن، تزويد كييف بأسلحة نوعية. ولا معظم الأوروبيين متحمس لمثل هذا الخيار. بسبب أوضاعهم الاقتصادية ومصالحهم، خصوصاً مع تهديد روسيا بإقفال مجالها الجوي أمام الطائرات الأوروبية.
تحكم بوتين ميدانياً
ويزيد من عزوفهم أن الرأي العام في بلدانهم لا يؤيد هذا الخيار. ثم إن موسكو على مشاكستها، لم تعد العدو. حتى بالنسبة لواشنطن وأوروبا. بعض الغرب عمل على تهويش كييف على خوض المواجهة.
بوتين الذي يتصرف عادة بمنطق القوة العارية والمدرك لمحدودية الفعل الأميركي الأوروبي في الأزمة الأوكرانية، لم يتردد في التصعيد الذي انتهى إلى تحكمه ميدانياً، بالأزمة وحلولها. عدم القدرة على قلب المعادلة حمل كييف على السعي لوقف النار والغرب على الترحيب به. ليس في اليد خيارات أخرى.
المحرج أكثر أن موسكو باتت في موقع فرض التسوية الكونفدرالية المفتوحة على تشطير أوكرانيا. وبعض المحافظين يتخوفون من انتقال موسكو إلى دول البلطيق من خلال جالياتها الروسية، وذلك تنفيذاً لاستراتيجية «فرط ناتو» في حلقاته المجاورة للتخوم الروسية. قد يكون ذلك من باب التضخيم والتأليب. لكن المخاوف قائمة من أن تصبح أوكرانيا أزمة تتناسل عنها أزمات.
في ظلّ هذه الاحتمالات الخطيرة، ارتفعت بعض الأصوات الأميركية التي لا تعفي واشنطن وبعض الأوروبيين من مسؤولية الأزمة. ستيفن كوهن أستاذ الشؤون الروسية في جامعة برنستون المعروفة، يتحدث بهذه اللغة منذ فترة. كذلك كتب الأكاديمي جون ميرشاير هو الآخر مقالة في العدد الأخير من مجلة «فورين أفيرز»، بهذا المعنى.
قبلهما كان وما زال هنري كيسنجر يدعو إلى التفاوض من موسكو وليس «أبلسة» بوتين. هو يدرك أن التحريض يؤدي إلى التفجير في حين لا تقوى أوكرانيا على الدفاع عن نفسها ولا «ناتو» قادر على حمايتها. ردّد أكثر من مرة أن بوتين «استراتيجي جاد» في رسم خططه وتنفيذها.
مجموعة استعراضات
أمام هذا الواقع ما كان بمقدور «ناتو» سوى الخروج بمجموعة استعراضات: الإعلان عن تشكيل قوة تدخل سريع «قوة رأس الحربة» للانتقال إلى أي مسرح عمليات في غضون 48 ساعة. لا ينتهي إعدادها قبل أشهر. وحتى لو كانت جاهزة فهي لا تغامر بالدخول إلى المسرح الأوكراني – الروسي.
والدليل أن «ناتو» اكتفى بإرسال عدد من مقاتلات أف – 16 وبعض البوارج الحربية مع إرسال قوات رمزية، خصوصاً أميركية، إلى بلدان أوروبية شرقية. كل ذلك لا يتعدّى محاولة التطمين.
كما تعهدت دول «ناتو» بتنفيذ البند القاضي بإنفاق 2% من مجمل إنتاجها القومي على الدفاع. لكنها لم تلتزم بذلك بصورة جازمة. فهذا تعهد قديم لا تفي به سوى بريطانيا وربما عدد قليل جداً غيرها. الآخرون تجاهلوا ذلك بحجة الأوضاع الاقتصادية. الأصح، لعدم قناعتهم بهذا الموجب الذي لم يعد له ما يبرره.
مأزق «ناتو»
بداية التأزم مع روسيا ما بعد الحرب الباردة، كانت في توسيع «ناتو». مأزق «ناتو» الآن أن التوسع زاد من انكشافه وليس من قدرته الردعية. لذلك: «تفوّق بوتين على الغرب بالدبلوماسية»، كما يقول نيكولاس بيرنز مساعد وزير الخارجية الأسبق والأستاذ في جامعة هارفارد. كما تفوق في الميدان. شهادة بأن الحلف فقد دوره.
* البيان