أرى أن ما نشر في العديد من الصحف العربية، في الآونة الأخيرة، وما فيه من تخوين لمن عرفوا بالعقلانيين والتنويريين، تكرار لخلاف الأقدمين. فأول التهم للمنادين بالعقل هو هدم الدين.
فإذا تحدثت ضد الإرهاب باسم الدين نُعتَّ بالملحد، وإذا تحدثت ضد الولي الفقيه وما يجري من سخرية وهتك للعقل باسم الحسين أصبحت قاتل الحسين؟ ووراء هذا التخوين عصاب سياسي.
عليك أن تثبت براءتك إما أن تتحول إلى طائفي وإما إذا ذكرت يوسف القرضاوي عليك ذكر علي خامنئي في السطر نفسه، وإلا لم تسلم من التجريح. للأسف هذا هو الواقع. لا جديد، إنه نزاع قديم ولنرى مشهداً من ذلك القديم، والذي لم يتمكن المتأخرون من تجاوزه!
ظهر المعتزلة بهذا العنوان في بدايات القرن الثاني الهجري، لكن وجودهم كفكر ومواقف سياسية كان قبل ذلك، والمتفق عليه في تأريخهم أن واصل الغزال (ت 131 هـ) وعمرو الباب (ت 144 هـ) أسسا هذا الكيان بعد الاختلاف مع شيخهما الحسن البصري (ت 110 هـ)، وبعد وفاة الغزال مال زميله إلى الفعل الفكري، وبوفاته عادوا إلى السياسة، وعلى ما يبدو كان آخر عمل سياسي لهم مع إبراهيم بن عبدالله (قُتل 145 هـ)، والأخير مثلما قرأنا كان على النهج الزيدي.
أما الأشاعرة فالتسمية نسبة إلى أبي الحسن الأشعري (ت 324 هـ)، وقيل ظل معتزلياً لأربعين عاماً، ومن الأشاعرة من ينفي ذلك. لكن الجميع يتفق أنه كان معتزلياً. لذا أوردنا في «معتزلة البصرة وبغداد» ضمن المتمردين على الاعتزال. لم يُختلف على صلة الأشعري بالمعتزلة، بل اُختلف حول وضعه لأُصول العقيدة السنِّية. فالأشاعرة يعتبرونها من صياغته، حسب «رسالة الثغر» (أصول أهل السنة والجماعة)، فعُرف عند الشافعية بـ«صاحب الأصول» (ابن خلكان، وفيات الأعيان). هذا ما يتحدث به أيضاً مثقفون معاصرون ينسبون أنفسهم إلى الأشعرية، مع أنهم من خارج المؤسسة الدينية والتدين أيضاً، فعدوا الرأي التنويري أو العقلاني يقصد هدم تلك الأصول.
مجمل القول في نسبة الأصول إلى الأشعري نجدها في قول السبكي (ت 771 هـ) عن الكتاب الذي تولى صاحبه الدفاع عن الأشعري: «كل سنِّي لا يكون عنده كتاب التبيين لابن عساكر فليس من أمر نفسه على بصيرة» (طبقات الشافعية). قال أيضاً: «لا يكون الفقيه شافعياً على الحقيقة حتى يحصِّل كتاب التبيين لابن عساكر، وكان مشيختنا يأمرون الطلبة بالنظر فيه» (المصدر نفسه). كان سبب تصنيف ابن عساكر (ت 571 هـ) لكتاب «تبيين كذب المفتري» هو بغض إمام القراءات بالشام لمذهب الأشعري (ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة).
أما الحنابلة فيعتبرون الأصول من صياغة أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) لا الأشعري. نأتي بمثال على تأكيد ذلك: «لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري، فجعل يقول: رددت على الجُبائي (أبو علي المعتزلي)، وعلى أبي هاشم (ابن الجُبَّائي)، ونقضتُ عليهم، وعلى اليهود والنصارى والمجوس، وقلت لهم: وقالوا، وأكثر الكلام في ذلك. فلما سَكت قال البربهاري: ما أدري ما قُلتَ قليلا ولا كثيراً، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبدالله أحمد بن حنبل» (الفراء، طبقات الحنابلة).
على أن تحديد أُصول العقيدة السنية (التوحيد والنبوة والمعاد) والمسائل التي تفرعت عنها، كثبوت الصفات والقدر، كانت رداً على أُصول المعتزلة الخمسة (التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، على اعتبار أن ابن حنبل، والأشعري مِن بعده، كانا بمواجهة المعتزلة، وكذلك على أُصول العقيدة الإمامية (التوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد).
إن حمأة النزاع المذهبي بين أهل السنَّة أنفسهم، ناهيك عن النزاع مع وبين المعتزلة والإسماعيلية والإمامية والزيدية، وصل إلى حد يلخص ضراوته قول القاضي محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي (ت 506 هـ): «لو كان إلي الأمر لأخذت الجزية من الشافعية» (سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان). كذلك اعتبر مراجع الشيعة الأولون والمتأخرون محمد بن نصير النميري (ت 270 هـ)، مؤسس العلويين، كذاباً، ونعتوا جعفراً ابن الإمام علي الهادي (ت 271 هـ) بـ«جعفر الكذاب» (الطوسي، كتاب الغيبة)، مع أنه ابن إمام معصوم عندهم.
هكذا كان النزاع بين المذاهب وداخلها، اُتهم بعضهم بعضاً بهدم الدين، واليوم جرى الحوار على المنوال نفسه. مع أنه لا يجوز إسقاط الماضي على الحاضر بتهم كيدية، على أن من يتحدث ضد الأُصوليين أنه لابد قد تشبع بتلك العداوات، وأنه يحمل الضغينة للإسلام كدين وحضارة. فهل فقيه الشام هدم الإسلام؟ أم أن البربهاري هدم الإسلام؟ أم أن المعتزلة، ونزاعهم بعد ظهور الأشعرية، هدموا الإسلام؟
تلك صورة مختصرة عن نزاعات الماضي، وهي لا تخلو من منحى ثقافي، فالثقافة آنذاك كانت متلبسة بالفقه والدين، وحتى كتب الجاحظ (ت 255 هـ)، والتوحيدي (ت 414 هـ) عوملت من قبل البعض بميول صاحبيها، وكان يغلب عليهما الاعتزال بقوة بالنسبة للأول وإلى حد ما بالنسبة للثاني، مع أن تلك الكتب عبارة عن بساتين جمعت الأدب والفكر والتاريخ، وحتى هذه الساعة لم يظهر منافس لها.
لم يبق للمثقف وجود وشأن وتأثير إيجابي إذا أخذته الطائفية وبأثر رجعي، فيظهر العقلاني أو التنويري، مثلما يُطلق على الذين يحاولون إحياء العقل، على أنهم هدمة للدين، فماذا يُراد من الحديث عن بن لادن والزرقاوي وما يقوم به القرضاوي مِن دور تعبوي باسم الدين؟ هل نقد هذه العناصر يعني هدم الدين؟ ومن قال إن الدين محمياً بالأشعرية؟ وماذا يُقال للحنابلة الذين لا يطيقون الأشعرية؟
إنها أصولية دينية سياسية سواء كان منجزها ظاهراً في «حاكمية» أبي الأعلى المودودي (ت 1979) أو تلميذه سيد قطب (أعدم 1966)، أو على الضفة الأُخرى «ولاية الفقيه»، وهي الحاكمية نفسها مع اختلاف العبارة. مشكلة عندما يمارس المثقفون سطوة رجال الدين، وسلاحهم الأول التكفير!
إن زج الشباب تحت راية الدين، في الدفاع عن الأضرحة، أو الحرب على العلويين، هي المعاول التي تهدم الدين، لا أهل التنوير، وهذا لا يتم إلا بتشريح معتمدات هؤلاء الذابحين. كانت تلك المعاول سبباً في أن يستهزأ نظام «البعث» السوري على السوريين بانتخابات (ديمقراطية)، وانتظروا سينقش عبارة «الله أكبر» على علمه، مثلما فعلها صاحبنا مِن قبل!
* رشيد الخيون
- الاتحاد