أيها القارئ الحنوبي العزيز، إن الشواهد لا تحتاج إلى دليل، فالإعلام هو البوصلة التي تحدد مسار الأمم، والترمومتر الذي يقيس درجة حرارة الوعي الجمعي، وميزان الأخلاق الذي يزن قيم المجتمعات ونبض قضاياها. والمصداقية فيه ليست مجرد صفة طارئة بل هي روح الرسالة وجوهر القيمة. لكن عندما يغدو الإعلام الجنوبي موضوع نقاش، تتكشف صورة مغايرة،تنتمي لزمن الانحطاط والسلبية، بعيدة كل البعد عن الحد الأدنى من الثقة والتعبير الأمين عن الواقع والحقيقة كما هي دون رتوش.
فالاعلام قبل كل شيء رسالة عميقة، لكن المتابع الجنوبي يشهد تحول مأساوي لهذه الرسالة؛ حيث انسحب الإعلام من دوره التنويري ليتحول إلى مجرد مصدر للكسب، ومنبع للتضليل والاستخفاف بالعقول، ومعول هدم يوجه ضرباته لنسيج الوعي ذاته، معتديًا على الحقيقة ومعتسفًا للمصداقية. والمفارقة تكمن في ادعاءه بتبني قضية وطنية عظيمة بينما ينشغل في الواقع العملي بقضايا تافهة وثانوية،حيث يهتم بالقشور متجاهلا اللب، ويتحدث عن الأعراض ويترك العلة تنخر في الجسد.
المجلس الانتقالي الجنوبي، الممثل السياسي للقضية، هو كيان بشري بالضرورة، ومحكوم بسنن الوجود الأزلية فهو قد يخطئ وقد يصيب، وقد يفشل وقد ينجح، وقد يستقيم وقد ينحرف فهو عرضة لكل الاحتمالات. وهنا تحديدًا يكمن دور الشعب الذي يمثله المجلس، وعلى رأسه الإعلام، في توجيهه وتقويمه، وتنبيهه وتعديل اعوجاجه وتصويب مساره عندما يجنح أو ينزلق. فالنقد الصريح والمسؤول ليس ترفًا بل ضرورة وجودية، وواجب وطني لضمان عدم انحراف الممثل عن إرادة موكله.
لكن الممارسات الإعلامية الجنوبية تذهب في اتجاه عكسي ومدهش، إذ يوجه هذا الإعلام سهامه نحو الشعب ذاته، صاحب المصلحة الحقيقية في بقاء المجلس واستقامته ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل يتعداه إلى مهاجمة كل من ينتقد المجلس الانتقالي ويعارض سياساته، متهمًا إياه بالخيانة ومتذرعًا بأن المنتقدين ليسوا من أبناء الجنوب بل هم خصوم سياسيون او اصلاحيون أو أطراف شمالية اخرى. في سلوك عدمي يرسخ صورة وهمية مفادها أن المجلس الانتقالي كيان لا يخطئ، ولا ينحرف، ولا يفشل، بل وكأنه قد أنجز كافة تطلعات الشعب الجنوبي وأوفى بالتفويض الممنوح له على أكمل وجه.
فيما الواقع المرير يشهد بأن المجلس الانتقالي لم ينجز أي هدف يُذكر، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الوطني ولا حتى على المستوى المعيشي والخدمي الذي ازداد تدهورًا بشكل لافت منذ منحه التفويض الشعبي. وعلى الصعيد السياسي، فان تحركاته وسياساته تبدو في كثير من الأحيان وكأنها تسير ضد القضية التي يدعي تمثيلها بموجب ذلك التفويض. وفي المقابل، يحاول اعلاميوه جاهدين إقناع الشعب بغير الحقيقة المؤلمة التي يعيش تفاصيلها يوميًا على أرض الواقع.
والنتيجة الحتمية لهذه الفجوة بين الخطاب والواقع هي فقدان الشعب ثقته تمامًا في المجلس الانتقالي. فالنقد تحول إلى سخط عارم بفعل السياسات المختلة التي بنتهجها على كل الصعد، بينما يكمل الإعلام، بأكاذيبه ومحاولاته اليائسة لتغطية قرص الشمس بغربال، تحويل هذا السخط إلى حقد.
إن نقد المجلس الانتقالي وقادته ليس دليلًا على العداوة له بل هو في حقيقته دليل على الحرص الشديد على استمراره وصموده ونجاحه. فالمدافعون عنه بغير حق ومنطق، هم في الواقع أعداؤه الحقيقيون، من حيث يظنون أنهم يخدمونه.بل هم بذلك انما يسيئون إليه ويضرّونه أكثر مما يفيدونه، لأنهم يحجبون عنه مرآة الحقيقة التي يراها الشعب بوضوح، ويدفعونه إلى الانزلاق بعيدًا عن بوصلة القضية. فالمساءلة والشفافية هي أسس النجاح، ولا بقاء لكيان سياسي يتهاوى إعلامه في وحل تبرير الفشل.