دعونا نتذكر هذه الثورة ونترك الخلافات قليلا حول ما آلت إليه الأوضاع، وأذكركم بأهم منجزاتها على الإطلاق التي ساهمت في بناء مصر الحديثة..
وقبل الخوض في المنجزات أذكر حضراتكم أني ناقد للأوضاع الحالية وذكر منجزات ثورة يوليو من باب (فهم ثقافة هذا العصر وتأثير هذه المنجزات بشكل إيجابي في صناعة مصر الحديثة)
يعني فهم الحدث في سياقه التاريخي، كيف أثر بشكل إيجابي على وعي الناس:
أولا: خروج مصر من التبعية لبريطانيا والاستقلال بشكل عملي عن الإنجليز بعد الاستقلال الشكلي الذي جرى توقيعه سنة 1922
ثانيا: شعور المصريين لأول مرة في تاريخهم الحديث أنهم ليسوا عبيدا لأحد وأن الدنيا ليست طبقات ناس فوق وناس تحت وأن الله يرضى بذلك كما أفهمونا..
ثالثا: أصبح للمصريين حقا تاريخيا لأول مرة في امتلاك سلاحهم وبناء جيشهم وفقا لمصالحهم لا وفقا لمصالح المستعمِرين، وهذه النقطة بالذات من أبرز إنجازات الثورة بعدما تعلم بأن المصريين (قُتِل منهم أكثر من مليون جندي) في الحربين العالميتين الأولى والثانية بعد قتالهم لصالح الإنجليز..
رابعا: شعور المصريين لأول مرة في تاريخهم بكيانهم وقوميتهم وشخصيتهم بعدما جرى انتزاع كل هذا منهم في القرون السابقة بفضل الأجانب والسلطات الملكية التي تعاقبت بالقوة والإخضاع لا بالحوار والإقناع..وهذه الجزئية بالذات دفعت المصريين للإبداع وشجعتهم على إحداث نهضة صناعية في الخمسينات والستينات بإنجاز أكثر من 2000 مصنع لدرجة أن مصر كانت قد قاربت على تصنيع كل شئ تقريبا..
كان هذا الشعور سببا أيضا في إنجاز مشاريع قومية تاريخية كالسد العالي وتأميم القناة وتطوير وحماية البنية التحتية الذين رفعوا الدخل المصري وحسّنوا معيشة الشعب بشكل كبير..
يكفي العلم أن مصر لم تكن تزرع محصور الأرز سوى بقدر قليل جدا، ولم يحصل المصريون على هذا المحصول سوى بالاستيراد وتناوله من فئات محدودة في الطبقتين العليا والوسطى، أما الكادحة والفلاحين فلم تكن لديها القدرة على تناول الأرز لعدم قدرتهم على زراعته نظرا لارتباط موسم زراعته بموسم الفيضان في الصيف..
يكفي العلم أيضا أن أكثرية الشعب المصري كان يعيش (بلا كهرباء) وبفضل منجزات الثورة في توليد الطاقة الكهرومائية ومد خطوطها وكابلاتها للقرى دخلت الكهرباء لمعظم قرى ومدن مصر ..
خامسا: القضاء على جماعات الإسلام السياسي المتشددة، التي وصلت قوتها قبل الثورة لحد امتلاك زمام الحكم شعبيا والسيطرة على العملية السياسية بشكل شبه كلي..وكان من جراء ذلك سيادة مفاهيم (الدولة المدنية) وترويج خطاب فكري وسياسي علماني يرفض رفضا باتا خلط الدين بالدولة..
يكفي العلم أن عدد عناصر جماعة الإخوان سنة 1944 كان (نصف مليون عضو عامل) غير المتعاطفين والمحبين والمؤيدين وأسرهم مما يعني أن الإخوان كانوا يسيطرون على (خمسة مليون مصري تقريبا) في وقت كان عدد المصريين آنذاك 16 مليون فقط..مما يعني أن الإخوان شعبيا كانوا يملكون ويتحكمون في (ثلث) الشعب المصري تقريبا..وهم في المعارضة، تخيل لو حكموا ونجحوا في البقاء بالحكم مدة أطول؟
سادسا: شعور المصريين لأول مرة في تاريخهم الحديث (بمعنى الحرية) التي كانت تعني آنذاك (الحرية ضد سيطرة الاستعمار والإقطاع والرجعيين من الجماعات الدينية) وهي (القوة الثلاثية المتحالفة) التي دمرت مصر في الماضي وكانت سببا في تخلفها ، وتسببت في عيش أكثر من 90% من المصريين دون تعليم أو مأوى وملبس وغذاء آدمي..
(طبعا معنى الحرية الآن اتغير وأصبح مرتبط بحقوق الإنسان والحريات السياسية والفكرية..) لذلك قلت يجب فهم ثورة يوليو في سياقها التاريخي اللي مختلف حاليا هذا السياق بشكل كبير..
سابعا: تم تأسيس أول جمهورية في تاريخ مصر يكون فيها الحاكم من اختيار الشعب، وممارسة ذلك بشكل عملي..
أخيرا: وصلنا الآن لسنة 2024 والقصور شديد ولم نتطور عن هذه النقاط السبعة، بل نعيش فقط على ذكراها رغم أنه من المفترض أن يبن المصريون على هذه المنجزات نهضة اقتصادية وسياسية أكبر تلبي طموحات الشعب المصري في عصر التكنولوجيا والسوشال ميديا، التي عززت من أهمية الرأي ..
وبرغم أن العقبات كثيرة لكن المستقبل جيد شريطة أن يتعلم المصريون من تاريخ الأمم الأخرى التي خاضت تجاربها المؤلمة بعد الثورات، ونجحت في النهاية ببناء دولة متحضرة..
فلكل ثورة مزايا وعيوب، والمصريون عاشوا على مزايا ومنجزات ثورة يوليو عقودا ..لكن صمتهم وفقدانهم الطموح أوقعهم فريسة بأيدي المستبدين والجماعات والعنف الديني وأوهام الخلافة، وهو التهديد الذي دفع القوات المسلحة للظهور بصورة المنقذ..
أي عندما يزول تهديد الجماعات ومجانين الخلافة ودولة الشريعة أثق أن الأوضاع ستتحسن، لكن طالما ظل هذا التهديد قائما أبشركم أن مصر لن ترى الحرية التي بشرت بها ثورة يوليو ولو بعد قرون..