الحديث الذي أدلى به رئيس الوزراء أحمد بن مبارك لقناتي اليمن وعدن الفضائيتين النازحتين (وبالأحرى الممنوعتين من العودة إلى موطنهما الأصلي)، لا ينبغي أن ينظر إليه على إنه مجرد مجاملةٍ لفظية بينه وبين الإعلاميين الرائعين سونيا المريسي وغسان المرشدي، بل لقد كَشَفَ رئيس الوزراء من خلال الحديث عن العديد من القضايا والتفاصيل التي ظل أسلافه وزملاؤه الوزراء يتحاشون تناولها بينما يفترض أن أصغر المسؤولين قد استوعبها منذ أكثر من عقد، لكن ما يستحق التوقف عنده مما تعرض لها رئيس الوزراء هذه المرة يتمثل في مجموعة من المؤشرات والحقائق أهمها:
1. الإقرار بأن إدارة الملفات المالية والاقتصادية والخدمية كانت تتم بطريقة لا مسؤولة ولا علمية ولا مهنية، وأن المليارات من الدولارات ظلت تُصرف عبثاً بطريقةٍ كان يمكن تجنبها لتوفير تلك المليارات فيما لو جرى اتباع سياسات إنفاق أكثر رشداً ومسؤولية.
2. رغم أن رئيس الوزراء لم يستخدم مفردة “الفساد” إلَّا نادراً، فإن كل حديثه قد تخلله الحديث عن معاني فسادٍ مهولٍ هي من ظلت تتحكم في الممارسات الاقتصادية والمالية والخدمية ومعها بطبيعة الحال التنفيذية والإدارية.
3. تطرق بن مبارك لقضية مهمة تتعلق بمنظومة الإدارة والإنفاق، وقال إن العملية الإدارية وخصوصاً إدارة الخدمات كانت تقوم على أساس “الإدارة بالفزعات”، وقد استخدم هنا التعبير المجازي للإشارة إلى أن العملية كانت تتم على شكل عمليات إسعافية حينما تنشأ المشكلة، وليست وفق خطة إدارية ومالية وتنفيذية مزمَّنة بالوقت والمكان والمخصصات وعلى ضوء دراسة مستوفية لطبيعة المشكلات قبل حدوثها، كما هو الحال مع ملفي الوقود والكهرباء.
4. تطرق رئيس الوزراء إلى نزيف الكوادر الإدارية لمنظومة الدولة والاستعاضة عن الكادر بكوادر شبابية عن طريق التعاقد، وعدم القدرة على الإحالة إلى التقاعد بسبب استمرار حالة الحرب، وعدم توفر الموارد المالية لدفع حقوق المتقاعدين، ولو إنه لم يشر إلى نهب الجماعة الحوثية لأصول المؤسسة العامة للتأمينات وهي بعشرات المليارات، من حقوق هؤلاء المتقاعدين.
5. أكد رئيس الوزراء على إن البلاد تعيش حالة حرب، وأن لا وجود لهدنة، وهو الأمر الذي ظل القادة الحكوميون يتحاشون التصريح به إما تهرباً من الإفصاح عن الخطوات التي يفترض أنهم قد اتخذوها أو يخططون لاتخاذها لمواجهة لجماعة الحوثية أو للتظاهر بالالتزام بالهدنة التي لا وجود لها إلا في محافظات الشمال، أما في محافظات الجنوب وحدودها مع الشمال فإن الحرب مستمرة ويكفي أن نعلم أن أكثر من ثلاثين شهيداً سقطوا خلال شهر مايو في مافظة الضالع وحدها، واليوم سقط ثلاثة شهداء من أبناء الصبيحة في إطار ما يسمى بقوات درع الوطن (الجناح العسكري التابع للرئيس العليمي).
إن أهم ما يشير إليه حديث بن مبارك هو الاعتراف بأن حكومات أسلافه قد مارست الفساد على أوسع نطاق وأنها لم تستخدم القانون ولا النظام ولا التقاليد المؤسسية المتعارف عليها حتى في أكثر البلدان تخلفاً.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ينوي بن مبارك وحكومته إعداد ملفات متكاملة عن عمليات الفساد والعبث بالقانون والنظام وقبله العبث بالمال العام وحقوق المواطنين وواجبات الحكومات المتعاقبة تجاه هذه الحقوق، وما ترتب على كل هذا من عذابات وآلام ترقى إلى مستوى الجرائم، تسببت بها تلك الحكومات في حياة المواطنين الجنوبيين الذي تكبس على أنفاسهم وتتلذذ بتعذيبهم منذ 2015م، بل منذ 1994م، ومن ثم تقديم تلك الملفات للنائب العام ليتخذ إجراءاته لمحاسبة هؤلاء بدءاً برؤساء الوزراء وانتهاءً بأصغر موظف فاسد، أم أن العملية ستتوقف عند مدير مستشفى الأمراض النفسية الذي لا حزب له ليحميه ولا قبيلة له تدافع عنه ولا يمتلك قيمة الثور الذي يفترض أن يذبحه أمام مجلس الوزراء حتى يعفى عنه ويعود إلى عمله، أسوةً بالقادة الكبار الذين أحالهم الرئيس هادي للمحاسبة ثم رقاهم ألى مواقع قيادية أعلى وأكثر فرصةً للإفساد من تلك التي شغلوها قبل الإحالة إلى التحقيق.
وللتذكير هنا، فإن كاتب هذه السطور كان قد طالب بمحاسبة معين عبد الملك (آخر رئيس وزراء قبل بن مبارك) قبل إقالته، ثم بعد إقالته، فهل سيفعلها بن مبارك ليقفل بذلك حنفية الفساد التي التهمت كل خيرات الوطن؟ أم أنه سيتستر على سلفه، حتى يضمن عدم تعرضه للمساءلة يوم أن يغادر هذا الموقع اللعين؟؟
والله من وراء القصد.