الجنوب بعد "نوفمبر ٦٧" لم يكن يمتلك أدوات حاكمة تتعامل معه باعتباره شعب كامل بذاته ولذاته، ولم يأت مسحوباً خلف عربة التاريخ التي تقودها بغال الآخرين، وأنه ليس جزئية أو شظية نافرة أو كسر اعتيادي.. بل أنه سيد الأرض وحاضر عليها منذ الأزل ولا يحتاج سوى أن يبحث عن أسباب القوة ويستقر، وأن يحترم كيانه الوجودي ويجد مدخل موضوعي لفهم تاريخه السياسي والاجتماعي الخاص.
لقد تم إقصاء حقبة مهمة من تاريخ الجنوب لأسباب ثورجية، وحلت مكانها فراغات ابتلعت كثير من الحقائق لغرض التوظيف السياسي لاحقاً.
ومن هنا بدأت "المقايضة المصيرية".. دولة الجنوب مقابل الطموح القومي واليساري، حينها وجد المنظرون أن الجنوب "متبرع زاهد بأعضاء جسده" للتجارب السياسية بأصنافها.. القومية، الاشتراكية ثم الوحدة التي اختفى بداخلها في سبعة أيام فقط.
نكرر ذلك لأن التاريخ يتكرر أيضاً بأوجه مختلفة ولا يشفع للغافلين.
بعد ٩٤م كان الجنوب على استعداد لأن يذهب إلى أي كوكب في أبعد جالاكسي، لكي لا يسمع طقوس التثليث السياسي المقدس: "الثورة الجمهورية الوحدة"، وكانت المفردة الأخيرة تسقط كالجمرات في دمه، لأن الوحدة عُرفت بأنها أكبر كذبة كونية لا مثيل لها في الزمن المقروء والمنظور منذ أرباب الأولمب حتى أنصار الله. لكنه ابتلع الحياة بمرارتها ثم قاوم سلمياً، حتى حلّت الكارثة الأدهى في ٢٠١٥م وانتهى كل "وهم".
الآن لم تعد المسافة بين صنعاء وعدن تقاس بدماء ٩٤م التي عمدت "الوحدة" بوشم اللعنات حتى أصبحت حروفها مياسم تكوي الأرواح المتعبة، أو بدماء ٢٠١٥ الأكثر غزارة والأعمق جراحاً.. بل تنوعت المسافات وتعمقت الصدوع الرهيبة.
صنعاء، بأحزمتها اليوم، مقتنعة أن بينها وبين الآخرين "فوارق كربلائية"، فهي تحفر في شقوق الصراعات الدينية وتبني تحالفات طائفية، وتتغول فيها ولاءات "فوق وطنية" تعتبرها مقدسة ومتجذرة في الماضي البعيد، ليبدأ معها خريف الجمهورية، التي تنتظر انقضاء "العدة" ليتم زفافها إلى مذبح الخلطة الخطرة والمعقدة، بين العصبية الطائفية والتراث السياسي للدولة القبلية… إنه خريف كل شيء ستحل بعده فصول مختلفة.
هنا يبدأ الكلام المفيد حول الجنوب...
السياسة مثلما نعرفها هي مقايضات كبرى، وتنطبق أيضاً على مرحلة ما بعد الحروب وفقاً لميزان القوى.. وعلى الجنوب هذه المرة أن ينجو من الزهد بحقوقه وأن لا يصبح مجرد ورقة للمقايضة في التسويات السياسية، خاصة وأنه لا يملك "جيش موحد" ولا "ظهير سياسي". لهذا لم يأتِ ولن يأتي إسمه أو صفته في خرائط الطريق وسيبقى رهين المفاجئات بأشكالها، إن هي خير فله حظ فيها وإن هي شر فلا حيلة له بها، وهذا "أخطر مسلك". ففي الوقت الذي يثبت الجنوب شراكته العملية مع الأقليم، فإنه يتعين عليه أن يحترم دماء شهدائه أيضاً، وأن يسعى بكل الوسائل، من أجل تنظيم وتوحيد قدراته بصورة عملية، وهذه أمور لا يكفي معها "تربية الأمل" وممارسة "رياضة التفاؤل" في الهواء الملوث، لأنها هذه المرة مسألة بداية رحبة أو نهاية مسدودة الأفق.
الجنوب الذي أضاع فرص خلق وعاء سياسي حقيقي في زمن الحراك السلمي بسبب عملية التحنيط السياسي لجلاميد التاريخ بإشكالياتهم السيكولوجية، لا يجوز له بعد هذه الكارثة أن يضع قضيته رهينة التهويمات ورهان الطبطبة على العقول والضمائر، بل عليه أن يحددها من خلال نهج واقعي.
هناك حاجة ماسة "لمن" يضع استراتيجية التعامل مع هذه المرحلة المعقدة والخطرة، ويضع محددات الخطاب المعلن الذي يأخذ بعين الاعتبار العلاقات المركبة والتحالفات في الحرب، وفي الوقت ذاته يسعى لإعداد الجنوب لمواجهة المجاهيل التي ماتزال سيدة المشهد.
وبالرغم أنه لا يوجد ما يؤكد بأن الإقليم سيسلم كل شيء وينصرف في حال أن يتم إتفاق هش بين القوى السياسية والعسكرية في اليمن لأن الجنوب هو المحتوى الإستراتيجي لهذا الصراع.. وأن الأمر الواقع في صنعاء وفي عدن "إن طال" سيكتسب عمقاً سياسياً يختلف عن كل حسابات الساسة على الشاشات… بالرغم من كل ذلك إلا أنه من الحكمة أن لا يأمن أحد للنبوءات السياسة العائمة، ومطلوب من أهل الأرض أن يعملوا "وفقاً لما يخشوه وليس وفقاً لما يتوهموه".
ولكي تكون في مأمن عليك إعداد ذاتك للسيناريو الأسوأ والأسوأ جداً وهو: أن يخرج التحالف من وحل اليمن اليوم أو غداً مقابل ضمانات لا يكون للجنوب فيها أي مكسب سياسي.
فالجنوب حتى اللحظة وبكل تضحياته لم يرقَ إلى أن يصبح محوراً في التسويات السياسية لأسباب نعلمها، وفي المقابل لا يجوز الرهان على تطورات الأمر الواقع الغير محسوبة.
المطلوب إذن إزاحة المشهد العاطفي وبناء مقاربات عملية فاعلة، والإبتعاد عن ثقافة "حفلات الراب" في وسائل التواصل الإجتماعي التي لا تصنع إلا الضجيج في الأمور السياسية الكبرى.
الأوطان في مثل الحالة الجنوبية لا يجعلها تحظى بالإهتمام الدولي سوى "القوة الموحدة على الأرض" مسنودة بـ"عقول حقيقية"، عدا ذلك سيحط الجنوب أشرعته في رياح الآخرين، وستأتيه بما لا يشتهي.
هذه العبارات وإن تكررت وإن تعبنا منها إلا أنها تمثل الهم المشترك الذي يجتمع حوله كل الناس، لأنه لا يوجد حتى الآن ما يثبت أن الأمور تسير وفق "رؤية محسوبة" أو ضمن"إتفاق غير معلن"، فما يزال هناك فراغ مخيف.. والمطلوب من كل النخب الجنوبية أن تأخذ دورها الآن.
*- د احمد عبد اللاه