قبل مواصلة الحديث عن نتائج مشاورات الرياض لا بد من التعقيب على بعض التعليقات التي انتقدت ظاهرة عدم تعلم الجنوبيين من كثرة الخدائع التي تعرضوا لها على يد الشريك السلطوي الشمالي.
إن مناقشة هذا الأمر تستدعي وقفة تقييمية لكامل التجربة التي مرت بها العلاقة بين الشعبين والدولتين في هذا الإقليم من العالم، وهو أمر يطول الحديث فيه، لكن ما ينبغي فهمه وإدراكه جيداً هنا، هو حالة عدم التوازن بين طرفي الصراع حول القضية الجنوبية.
ومع عدم التقليل من أشكال الرفض السياسي لنتائج الحرب البغيضة، خلال العقد والنصف السابقين، لكن مقابل المقاومة الجنوبية السلمية الشعبية العارمة غابت الأداة السياسية التي تمتلك برنامجَ واضحاً، ومضامين مدروسة وممؤسسة من الأهداف الاستراتيجية والوسائل التكتيكية.
ومع كل التقدير والاحترام للأدوار المميزة التي لعبتها بعض القوى السياسية الرافضة لنتائج الحرب الظالمة على الجنوب منذ السابع من يوليو البغيض، فإن هذه الأدوار ظلت مقيدةً بضوابط النظام والدستور الذين أنتجتهما الحرب وهو ما حال دون التعرض لقضية الجنوب كقضية هوية ووطن وتاريخ ودولة مكتملة المعالم والأركان، وعلى أرض ذات عاصمة وحدود وعلم وشعار وتمثيل إقليمي ودولي.
وهكذا فمع اندلاع الثورة الجنوبية السلمية في العام 2007م نشأت حالة من الانفجار الجماهيري العارم الذي تجاوز ليس فقط توقعات الأعداء وخططهم الوقائية، بل وحتى توقعات أنصار الثورة الجنوبية وروادها، لكن هذا الفيضان الجماهيري العارم كان يفتقد للأداة السياسية القادرة على توجيه سيوله المتدفقة في مساراتها التي تحقق الثمار المرجوة منها.
وبعبارات أخرى إن المقاومة السلمية الجنوبية التي اتخذت شكل الفعاليات السلمية والمليونيات الحقيقية كانت تمتلك حشودا جماهيرية عريضة ولكن بدون أداة سياسية متماسكة ذات رؤية سياسية منضجة ومقنعة، بل لقد نشأت حالة من الانقطاع التاريخي بين تجارب الماضي وصيرورة الأحداث الجديدة المتصلة بثورة الحراك السلمي الجنوبي، وذهب الأمر بالبعض (وإن كانوا أقلية)، إلى إعلان الشعارات المعادية لكل التجارب الجنوبية السابقة بما في ذلك تجربة جمهورية الديمقراطية الشعبية، وإعلان كل القيادات التاريخية السابقة والمناسبات الوطنية الجنوبية كأشخاص وأحداث ورموز معادية لشعب الجنوب كما يقول هذا البعض.
وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية لتكرار الوقوع في مطبات المكائد والخدع التي كانت تعدها مؤسسات متخصصة تابعة لدولة مكتملة الوسائل والأدوات التي لم تبرز ولم تنجح في شيء مثلما نجحت في صناعة تلك المكائد.
وإذا كان لا بد من الإقرار بمحدودية التعلم من تلك المكائد والمطبات والخدع التي تعرض لها الجنوب والجنوبيون، فإنه من المهم الإقرار بعدم التوازن بين طرفي الصراع عندما يتعلق الأمر بالقضية الجنوبية، فالجنوبيون يتعاطون مع القضية بنفس الثوار المؤمنين بعدالة قضيتهم المتمسكين بمنطق الحق ضد الباطل وحتمية انتصار الحق وزهقان الباطل، بينما ظل الطرف الآخر وما يزال يتعامل من خلال مؤسسات دولة من مخابرات وأجهزة قمع ومطابخ استخباراتية وجماعات إرهابية، وبتجارب متراكمة في صناعة المكائد وحبك الألاعيب والدسائس.
هذا هو التفسير المختصر لظاهرة تكرار وقوع الجنوبيين وقياداتهم في المكائد والمطبات ومحدودية التعلم منها، وهناك تفاصيل كثيرة يمكن تناولها في سياق آخر من تقييم التجارب الجنوبية التاريخية.
* * *
وبالعودة إلى الحديث عن موقع القضية الجنوبية في المرحلة الراهنة فإنه لا يمكن التقليل من النجاح الذي تحقق على يد المجلس الانتقالي الجنوبي، في تسويق القضية الجنوبية وإيصالها إلى العديد من المنابر والمحافل الإقليمية والدولية، ومع ذلك فمن المؤسف أن الشركاء الإقليميين والدوليين ما يزالون يتعاطون مع القضية باستحياء شديد وكأنهم لو تحدثوا عن الجنوب وحقوق أبنائه وشعبه الأبي في استعادة دولتهم، كأنهم إنما يمارسون إحدى المحرمات أو يخدشون إحدى المقدسات أو يمارسون معصية من المعاصي التي تحرمها الأديان والأعراف والقيم العالمية.
* * *
أما تحول مشاورات الرياض ومخرجاتها إلى مصيدة وخدعة جديدة ضد الجنوب والجنوبيين فهذا ما لا يمكن استبعاده أو تأكيده إلا بتفكيك عناصر القضية ومكونات الإشكالية.
وهذا ما سنتناوله في وقفة قادمة