منذ ليلتين كنت ضيفا على قناة الحوار ذات التوجه الإسلامي في برنامج "أنت الحكم" وكرست القناة حلقتها للوضع في اليمن من خلال سؤال لاستطلاع آراء المتابعين بعنوان "مجلس القيادة الرئاسي، هل هو هيئة لتقاسم النفوذ السعودي-الإماراتي أم مدخل لإصلاح الوضع في اليمن؟" وكعادة القنوات الإخوانية يتضح التفخيخ الذي تضمنه السؤال، حيث لم يضع خيارات متعددة، بل وضع الأمر على صيغة المعادلات القطعية المعروفة " إما وإما" وهذا ما قلته للمذيع وهو إن السؤال كان يمكن أن يطرح سؤال الاستفتاء بعدة خيارات وليس بطريفة الخيارين "يا اسود يا ابيض" كما يقول العامة
* * *
تقوم فلسفة الجماعة الحوثية على منطق غريب ومعوج، وعنصري، وملخصه "إن من ليس قنديلاً حوثياً ولا حتى زنبيلاً من زنابيلهم فهو عدو، عميل، مرتزق يخدم دول العدوان،" و"إن كل أرض ليست تحت سيطرتهم هي أرض محتلة من قبل السعودية والإمارات، ومهما أمريكا وإسرائيل".
من هذا المنطلق الصنمي يقوم موقف الحوثية من كل القضايا السياسية والعلاقات الإقليمية والدولية ومنها بطبيعة الحال موقفهم من مخرجات مشاورات الرياض، فتبعا لهذه الفلسفة مجلس القيادة الرئاسي هم عملاء للسعودية والإمارات، ومن يؤيدهم فهو مثلهم عميل وعدو لليمن، وحتى عندما يتحجج الحوثيون بأنهم رفضوا الحضور في مشاورات الرياض لأنها تعقد في "دولة العدوان"، إنما يتخذون من هذه الحجة مبرراً لتهربهم من المشاركة في أي محاولة لإخراج البلد من حالة الحرب إلى آفاق السلام.
شخصيا كنت أتمنى أن يجري التحضير لمشاورات الرياض بشكل أفضل مما جرى وأن تعقد في أي مدينة عربية غير الرياض، لتفويت الفرصة على الحوثيين وجلبهم وتشجيعهم على الانخراط في المشاورات وإشراكهم في المخرجات، مع يقيني أن أية مشاركة لهم لن تكون إلا وسيلةً للتعطيل وليس إسهاماً في محاولة الوصول إلى ما يسمى بالمساومة السياسية والتنازلات المتبادلة و"الحلول الوسط"، ومن هنا ففي رأيي أن حضور الحوثيين في أية مشاورات كعدمه، لأنهم لا يرون اليمن إلا في أنفسهم، ولا مستقبل لليمن إلا في مشروعهم الخائب.
تكمن المعضلة مع الحوثيين في أنهم ما يزالون يعتقدون أن لمشروعهم هذا مستقبلا في اليمن، لا بل ويخططون لتصديره إلى باقي بلدان الجزيرة والخليج، كما قال لي أحد الدبلوماسيين الدوليين، ليلتقوا فيه مع كفيلهم الإقليمي ويستكملوا معا ما أسماه أحد منظري دولة الكفيل بـ"القمر الشيعي" بدلاً مما كان يسمى بـ"الهلال الشيعي" الذي يشمل كلا من إيران، العراق، سوريا ولبنان.
مخرجات مشاورات الرياض التي أريد لها أن تصنع مرجعية بديلة للمرجعيات الثلاث التي استنفدت أكثر من عمرها، تصطدم بحقيقة أن الجماعة الحوثية ترفضها، وهي المسيطرة على مساحة الجمهورية العربية اليمنية (سابقا) وتنظر إليها على إنها استمرار لمؤامرة دولية وإقليمية، ضد اليمن، واليمن هنا هي الجماعة الحوثية وأنصارها وليست شيئا آخر.
لست من دعاة التشاؤم، ومع كل تحفظاتي على بعض مخرجات مشاورات الرياض، وخصوصا التركيبة التي جاء بها مجلس القيادة الرئاسي، إلا إنني لا أتصور بأن هذه المشاورات ومخرجاتها قد حددت خارطة طريق واضحة المعالم للخروج من أزمة الانقلاب والحرب في اليمن إلى رحاب التعايش والسلام والتنمية والاستقرار، كما إن نجاح مخرجات مشاورات الرياض في ظل تعنت الجماعة الحوثية لن تفلح في حل أزمة الانقلاب والحرب وثنائية الشمال والجنوب في اليمن إلا في إحدى حالتين أو كلاهما: الأولى إعادة صياغة الاستراتيجية العسكرية، الأمنية والدفاعية للشرعية الجديدة، من خلال بناء جيش شمالي حقيقي متحرر من ثقافة الهيمنة الايديولوجية وفساد الأسماء الوهمية ومتسلح بعيدة عسكرية وطنية خالية من الولاء الحزبي والمناطقي والقبلي والأيديولوجي.
الثانية: تقديم نموذج متميز في محافظات الجنوب من حيث منظومة الإدارة والخدمات والأعمار والتنمية والاستقرار الأمني والمعيشي يتفوق على النموذج السيء الذي يقدمه الحوثيون في شمال اليمن ليكون سببا لمضاعفة سخط الناس تجاه هذه الجماعة، لأنك لا يمكن أن تحارب مشروعاً سيئاً وقبيحاً بنموذج أكثر منه سوءً وقبحاً.
لا يمكن عزل المشكلة اليمنية عن مجريات العلاقات الإقليمية والدولية في المنطقة وما تشهده من حالات المد والجزر، وخصوصا ما يتعلق منها بالملف النووي الإيراني والمحادثات الدولية بشأنه، فحدوث تغيير في ميزان القوى الجيوبولتيكي في المنطقة يمكن أن ينقل إيران من موقع الدولة الشريرة المصدرة للعنف والإرهاب إلى دولة تخضع للمعايير الدولية في العلاقات الإقليمية والدولية قد يساهم في إخضاع اذرعها المليشياوية ومنها الحوثيون لتلك المعايير بحيث يمكن أن تتحول من مليشيا للطغيان والإرهاب والعنف و"تصدير الثورة" إلى قوة سياسية تحترم بقية القوى وتقتنع بحجمها الحقيقي على الأرض لا الحجم المصطنع الذي تستمده من الجبروت والطغيان والإكراه والاستبداد وادعاء الوصاية الإلهية والتميز العرقي وغير ذلك من خرافات القرون الجاهلية والظلامية.
غير إن كل هذا لا يمكن أن يحدث تغييرا جذريا في توازن القوى على الساحة ما لم تنتقل (الشرعية الجديدة) من حالة الموات، وسياسات الشكوى والنواح، إلى بناء استراتيجية جديدة تستلهم المعطيات القائمة على الأرض وتستدعي عناصر التفوق والانتقال إلى الهجوم الإيجابي البنَّاء لتحرير الشمال من وضعية الخضوع للطغيان الحوثي والسعي نحو الحل النهائي بالعودة إلى نظام الدولتين الشقيقتين؟
وهذا ما سنتوقف عنده في لقاء قادم