لم يكن مستبعداً ولا مستغرباً أن يخرج رئيس مجلس الشورى اليمني أحمد عبيد بن دغر وبجانبه البرلماني عبد العزيز جباري بتلك الدعوة التي أطلقا عليها "دعوة للإنقاذ الوطني"، وتضمنت العديد من النقاط الإشكالية، وخلّفت الكثير من الجدل، حتى اعتبرها البعض بداية لـ "انقلاب أبيض" يجري التحضير له على قدم وساق داخل دهاليز "شرعية" ممزقة.
لقد بدا واضحاً أنّ بن دغر يُصر على الاستثمار في أسهمه الجنوبية للحصول على المنصب الأكبر في اليمن، وبأي ثمنٍ، وفي ظل فترة بحاجة إلى "شاهد زور" جنوبي جديد، بشرط أن تكون هذه المرة شخصية أكثر ضعفاً، ولا تملك أي حاضنة اجتماعية.
إنّ عنصر عدم المفاجئة يأتي من معرفة لطبيعة شخصية رئيس الوزراء السابق المُحال إلى التحقيق على خلفية قضايا فساد، ظاهرياً، بينما في الحقيقة كان نتيجة للخلاف بين الرجل وبين الرئيس هادي على إثر إحساس الأخير بمحاولة الأول سحب البساط الرئاسي من تحت أقدامه.
لقد تشكّلت شخصية أحمد عبيد بن دغر السياسية عن طريق مسارين متوازيين ومتعاضدين: رجل دعاية حزبية من طراز فريد، ومهووس كبير بالجلوس في جوار صاحب السلطة، ولهذا شهدت حياته السياسية كماً هائلاً من التقلّبات، ومواقف في مُنتهى الإثارة والإشكالية. فالشاب الذي كان يُريد أن يُحرق كل المراحل للوصول – بسرعة الضوء - إلى أقرب نقطة في رأس السلطة، كان مستعداً في بداية حياته لأن يُشارك في (قتل وسحل) كل المعارضين لخطه الإيديولوجي في سبيل خدمة أهدافه وطموحاته الذاتية الكبيرة جداً!
كان بن دغر وجُباري جزءاً أساسياً من جهاز السلطة في اليمن، الذي تلاعب بكل الأزمات في سبيل ضمان بقاءه الأبدي جاثما على صدور الناس. في لحظات ما قبل السقوط الدراماتيكي في 2015. حاول جباري أن ينأى بنفسه، لكن بن دغر استمر بأداء دوره الاعتيادي كرجل سلطة ورجل بروبجاندا، بمنتهى التفاني والإخلاص. عندما انقلب الرئيس سابق صالح على مُخرجات الحوار الوطني، وتحالف مع الحوثيين، في إسقاط العاصمة وإعلان حرباً واسعة على البلاد لم تُبقِ ولم تذر، كان بن دغر يجلس بجواره في ميدان السعبين مع ابتسامة عريضة تَشي بالكثير من الدلالات السياسية.
بعد انطلاق عاصفة الحزم، ظهر الرجل فجأة في قلب عاصمة قائدة "التحالف العربي" بعد تسلله عبر طرق ومسالك خفية، ليصبح "السياسي الناعم"، وفقا لكبرى الصحف السعودية حينها، "الحاكم الثاني" بعد الرئيس عبدربه منصور هادي. (1)
في ظل الصراعات بين أطراف "الشرعية"، والارتباك بين دول التحالف الذي تقوده السعودية، خصوصا بعد تعيين علي محسن الأحمر نائبا للرئيس واقتلاع الجنوبي الآخر ذو الحاضنة الشعبية، خالد بحاح، من رئاسة الوزراء، اقترب بن دغر من "العرش"، مستغلاً خبرته الطويلة في طريقة تقديم نفسه وأصبح رئيسا للوزراء. (2)
لم يتحدث بن دغر قط عن أي اختلالات، مخالفات أو جوانب من المعاناة التي يمرّ بها الناس في الداخل عندما كان رئيساً للوزراء. توسّعت دائرة الفساد كمّا وكيفاً في عهده، وبلغ شراء الذمم داخل دواوين "الشرعية" مرحلة لا مثيل لها في التاريخ اليمني المعاصر. امتلأت الوزرات بالنواب والوكلاء، والسفارات بالدبلوماسيين، والمحافظات بالوكلاء والمستشارين، وأصبحت "الشرعية" جهازاً وظيفياً يُعادل أجهزة عدّة دول من دول الصف الأول. وكل هؤلاء يتقاضون رواتباً خيالية مقارنة مع حال البلاد المدمّر، وبالدولار، مما أدى إلى استنزاف الاحتياط النقدي من العملة الأجنبية، وكان ذلك أبرز سبب أدى إلى أزمة معيشية طاحنة، دفعت محافظ عدن الأسبق عبد العزيز المفلحي، لقوله جملته الشهيرة "إنّ كبريائي يمنعني أن أخوض في جدال مع رئيس حكومة يسرقُ الماء من أفواه الناس والضوءَ من أعينهم".
فجرّ بن دغر خلافه الشهير مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وحرف مسار المعركة نحو جزيرة "سقطرى" عوضا عن صنعاء. لقد كان الدافع طموح شخصي بحت، تمثّل في الاحتفاظ بمنصبه كرئيس للوزراء، ودعم ملفه كبديل مثالي للرئيس هادي، دخل شرعية يُسيطر عليها حزب الإصلاح، الذي يرى بمناورات بن دغر أعلى مراتب الوطنية، ويجد طبيعة شخصيته الضعيفة وافتقاره إلى الحاضنة الاجتماعية، صفات مثالية لمرشحه المنشود.
دعوة جباري وبن دغر تصطاد في المياه العكرة، مستغلة أوضاع الناس المعيشية، والأخطاء الفادحة للشرعية اليمنية، وعدم قيام الدول الداعمة لها بأي خطوات حقيقية لرفع معاناة الناس التي كان الرجلان من صنّاعها بامتياز. لكن، بالمقابل، تضمنت الدعوة، الكثير من الأفكار "الخطرة"، والمشاريع، التي قد تعمل على تفجير أي فرصة لبناء السلام، بل وإدامة الحروب لخمسين سنة قادمة.
لم تُشر الدعوة إلى كيفية التعامل مع الأمر الواقع المفروض في شمال اليمن بقوة الحديد والنار، ولم تُشر إلى الطريقة التي ستمنع من خلالها "عودة الإمامة، أو توسّع نفوذ إيران في المنطقة، أو الحد من التهديدات لطرق الملاحة البحرية أو الهجمات على دول الجوار كالسعودية، أو حتى إصلاح الخلل داخل "الشرعية" أو مكافحة الفساد أو مواجهة التحديات الاقتصادية للمواطنين. لكنّها تضمنت الكثير من الرسائل الخطيرة حول ما يجري في الجنوب، داعية إلى "الدفاع عن الوحدة" تحت غطاء الدولة الاتحادية، معتبرةً القوى الموجودة في الجنوب – دون غيرها – كطارئة وصنيعة خالصة "لقوى أجنبية تفكيكية تُريد تمزيق البلاد".
إنّ عدم مراعاة الواقع السياسي في الجنوب، والنظر إليه على هذا النحو، مع وجود قوة قوية على الأرض، ولديها عمق اجتماعي راسخ، وتاريخ طويل من النضال، ومستعدة أن تذهب إلى أبعد نقطة للدفاع عن مشروعها ووجودها، كل ذلك يقول بأنّ أصحاب هذه الدعوة لا يفكرون وفق أبجديات السياسية، وهم يقفون على رأس مشروع حرب طويلة الأمد، في سبيل تحقيق رغباتهم الدفينة. إنّ هذه الدعوة في الحقيقة هي محاولة للتشويش على أي عملية سلام حقيقية يُمكن العمل عليها من قبل المجتمع الدولي.
*- شبوة برس ـ سوث 24