ما دفعني لكتابة هذا المنشور هو ذلك المشهد المكتظ بالمفارقات الغريبة والسريالية في المواجهة مع المشروع الإيراني ومروجيه في اليمن، بغض النظر عما يدور وراء كواليس السياسة وعلى مسرحها من محاولات الوصول إلى صفقة تستهدف "إنهاء الحرب" وبناء أسس "سلام" قابل للحياة والديمومة في اليمن.
المشهد الذي أقصده هو تلك المواجهة المتواصلة بين عشرات الآلاف من المليشيات الحوثية، التي تتحكم في مرتفعات الجبال وتتمتع بكل نقاط التفوق المادية والبشرية والجغرافية ، مقابل بضعة آلاف وربما مئات من المقاتلين معظمهم متطوعين في جبهة مثل الضالع على شريط يبلغ عشرات الكيلو مترات تمتد من مريس وقعطبة وسناح حتى الحشاء والازارق وحدود مديرية المسيمير شمال غرب محافظة لحج، لم تستطع معها الفيالق الحوثية التقدم شبراً واحداً باتجاه الجنوب، على مدى ما يزيد على ثلاث سنوات منذ تسليم قوات "الشرعية" جبال العود الاستراتيجية لشقيقتها "القوات الحوثية"، في ظل غياب أي دعم مادي أو تكنيكي أو حتى غذائي لقوات المقاومة الجنوبية البطلة في تلك الجبهات، مقابل عشرات الألوية المزودة بكل ممكنات النصر في جبهة مثل مأرب وشبوة بعشرات الآلاف من المقاتلين (الشرعيين) وقيادة المنطقة العسكرية الثالثة وقيادة وزارة الدفاع نفسها فضلاً عن الدعم السعودي اللامحدود تقنيا ولوجستيا مع عشرات طلعات الطيران شبه اليومية، وبرغم كل هذا نسمع كل يوم عن سقوط منطقة أو معسكر من أيدي قوات "الشرعية" في أيدي القوات الحوثية، لنخرج بمحصلة فحواها إنه وعلى مدى سبع سنوات، منذ استيلاء الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء، كل الذي نجحت فيه قوات "الشرعية" هو تسليم أربع محافظات لشقيقتها (القوات الحوثية) هي ريف صنعاء، ومأرب والجوف والبيضاء بعد أن حررها أهلها بإمكانياتهم الخاصة، وتستعد (قوات الشرعية) لتسليم محافظة شبوة الجنوبية، ولا يتوقع معظم المحللين الاستراتيجيين أن يتحقق لها ذلك.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يصمد ويتفوق أبناء محافظة فقيرة مثل الضالع برغم شحة الإمكانيات العسكرية والمادية والبشرية وتفوق العدو بكل شيء بما في ذلك الموقع الجغرافي المرتفع والمطل على معظم مناطق المواجهة (وما ينطبق على الضالع ينطبق على جبهات كرش وطور الباحة والساحل الغربي وعقبة ثرة بأبين)، بينما ينهزم مئات الآلاف من فيالق وفرق "الشرعية" في جبهات المنطقة العسكرية الثالثة وجوارها، وهي التي تمتلك كل ممكنات النصر بما في ذلك دعم التحالف العربي؟؟
إن الرد على السؤال يتضمن عددا من المفارقات، لعل أهمها أن الذين يحاربون الحوثيين، وكلاء المشروع الإيراني في اليمن، ينتمون إلى مدرستين سياسيتين وعسكريتين وعقائديتين مختلفتين.
فالذين تصدوا لغزو التحالف الانقلابي في الجنوب منذ العام 2015م هم طلاب حرية ودعاة استقلال وحاملي راية الانعتاق من التبعية ونزعة الإلحاق والهيمنة ويحملون قضية وطن ومشروع مستقبل، بينما من يحاربون هذا المشروع ووكلاءه في جبهات المنطقة الثالثة وقبلها الخامسة والسادسة والسابعة هم الذين قاتلوا معهم ورددوا معهم الصرخة وتحالفوا معهم وتعاهدوا على "طي صفحات الماضي" وسلموهم المدن والمحافظات والمعسكرات والأسلحة والعتاد والمواطنين وأفتوا لهم بالخُمْس، وتعايشوا معهم بحجة إنهم ليسوا "أبو فاس".
إننا نتحدث عن قيادات عسكرية مفلسة تدربت على صناعة الهزائم منذ السبعينات وما تزال وهي التي ألحقت كل هذا العار بشرف العسكرية وقدسية الوطن كمفاهيم متعالية لا تقبل المساومة أو المقايضة في أي زمان ومكان.
كل هذا لا يلغي الأدوار البطولية لأبنا محافظات الشمال في مأرب والبيضاء والجوف وتعز والحديدة وفي مناطق حجور والساحل الغربي ودمت والحجرية والمعافر وعتمة وغيرها ممن خذلتهم القيادات العسكرية المعتقة على مدى سبع سنوات من الفشل المتواصل.