النظر لمحاكمات رموز ما سمي اصطلاحاً «الصحوة» بعين التشفي فيه تسطيح لا يليق باحترام العقول وهي تتابع جلسات محاكمات تاريخية تتطلب قدراً كبيراً من الموضوعية في تناولها وتناول ظرفيتها الزمنية والمكانية كذلك. هذه الجلسات المتوالية لمحاكمة الفكر «الصحوي» فيها من قدر هائل يستحق متابعته والتدقيق فيه، وعليه فهذه محاكمة تاريخية غير مسبوقة إطلاقاً، لذا لا بد وأن تأخذ بالقدر المستحق من الاهتمام الفكري لما ستقدمه من نتائج ستنعكس على أجيال قادمة.
عندما قدمت الجماعة الإسلامية في مصر أولى مراجعتها في تسعينيات القرن العشرين، قدمتها وكثير من قيادتها كانت تقضي عقوبة السجن بعد حادثة اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، كما أن هناك عاملاً دولياً شكّل العنصر الأهم في إصدار المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية يتمثل في أفول الاتحاد السوفييتي والأرضية التي استقطبت الجماعات الإسلامية في أفغانستان، كانت عوامل إصدار تلك الحزمة من المراجعات ضرورة تطلبتها المرحلة ليست للجماعة الإسلامية المصرية، بل لكل الجماعات المنتمية للمنهج «الإسلاموي»، فتلك حقبة تاريخية شكلت فيها القوى الإسلاموية مخالبها القوية.
فقه الضرورة اقتضى تقديم المراجعات لما يمكن أن تحقق من مكاسب للجماعة، وهو بالفعل ما حصلت عليه من توسيع نشاطها انتهازاً للتحولات الدولية والشرق أوسطية. فسقوط جدار برلين صنع وقائع سياسية في العالم كانت الجماعات «الإسلاموية» تنتهزها بالشكل الذي وسّع من نفوذها عبر «الصحوة» كفكر عابر للأوطان، وعبر المجاهدين وهم القوة الضاربة التي رسمت خرائط دول البلقان والشيشان، وغيرها من الخرائط السياسية مع نهايات الحرب الباردة. كل ذلك حدث في حقبة سطو الصحويين على الفكر الإسلامي وفرضهم تعاليمهم وأفكارهم التي شكلت المناخ لوصول تنظيم الإخوان المسلمين لحكم مصر في العام 2012، مما يعني تتويجاً لتفاعلات متداخله حققت الهدف الكبير بإسقاط الدولة الوطنية المحورية في العالم العربي والانتقال لمرحلة الدولة (الوهم) الخلافة بحسب التعريف الإسلاموي بشقيه السنّي والشيعي، غير أن ثورة 30 يونيو 2013 المصرية شكلت منعطفاً مخالفاً وفرضت الواقعية السياسية والعقلية التي بدورها أدت لكسر المخالب الإسلاموية، ثم وصلنا بعد مسارات صعبة لمراجعات في محاكمات تاريخية للأفكار التي اختطفت العقل وسممته على مدى زمني طويل.
وبمحاكمات شيوخ السلفية في مصر تحت ملف قضية (داعش إمبابة)، يتواصل تفكيك جوهر «الصحوة» وينكشف تاريخ التقاطعات بين هذا التيار والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في ما اصطلح عليه حسن البنا في أدبياته حول «التمكين»، ويبدو أنه للمرة الأولى في التاريخ يتم تفكيك شفراته السرية بشكل علني بعدما فقدت التيارات «الصحوية» قوة نفوذها في مداميك السلطة السياسية بما افترضته ثورة 30 يونيو، وما شكلته من عمق في الارتكاز على الواقعية للدولة الوطنية.
في سياق المحاكمات كشفت حقائق مذهلة، كتلك التي جاءت ضمن أقوال محمد حسان بأن سيد قطب، يعتبر من دعاة الإرهاب، فيما كان حسان- وعلى مدار تاريخه- يتماهى بشكل أو بآخر مع «القطبية» باعتبارها فكراً إسلامياً ومرجعية دعوية، فلم يصدر نحوها ما يحذر عامة الناس من مخاطر كتب سيد قطب، ومنهجه الموغل في التطرف، وتأصيل التعصب الديني، ورفض الآخر، بل إن القطبية هي التي كفرت المسلمين معتبرتهم مجتمعاً جاهلياً، تسقط عليه أحكام العصر من ناحية الكفر وعبادة الأوثان.
لطالما شكّلت المراجعات الفكرية مادة خصبة للمفكرين، غير أن العالم يعيشها ويتابعها عبر ساحات المحاكم بعد تجريد «الصحويين» من كل الأقنعة والدروع التي تستروا خلفها عبر عقود ممتدة ليظهروا في ساحات المحاكم يتبرأون من بعض طواقمهم ويقفزون جميعاً من سفينتهم المعطوبة التي تقاوم الغرق بعد ما أصابها من ضربة شديدة، افقدتها توازنها، فلم يعد من المقبول اختزال الدين في فئة، وظفت الآيات والأحاديث النبوية لتحقيق أجنداتها السياسية.