التغاضي عن التفاعلات السياسية لا يعني أنها غير موجودة، أو أنها في طريقها للتلاشي والاختفاء. فالتغاضي والتغافل في السياسة فعلٌ منكرٌ لا يليق بالسياسي ارتكابه، فهو وقوع في الأفخاخ المحفورة في طرق السياسيين الذين عليهم تجنب السقوط فيها خشية على مكتسباتهم السياسية.. هذه مقدمة لما يُخشى الحديث عنه لاعتبارات متعددة ليس من بينها الشجاعة والاستقراء في الواقع بموضوعية اللحظة الزمانية وتفاعلاتها، وما ستذهب إليه من مآلات حتمية.
أقرت قمة العلا الخليجية إنهاء مقاطعة دولة قطر والبدء في إطلاق مرحلة مصالحة مع النظام القطري، ضرورات الخطوة السياسية تتطلب النظر بكثير من الموضوعية في تأثير فترة المقاطعة وما سبقها على اليمن بكثير من الجرأة للأهمية القصوى ظرفياً ومستقبلياً، فالمأساة الكبرى التي نزلت على عدن والمشيخات والمحميات الشرقية في شبه جنوب الجزيرة العربية تستدعي اليوم استذكاراً واستحضاراً للتاريخ، والذي يبدو ماكراً في استعارة كثير من ملامح الماضي وإخضاعها بعناية على الحاضر المعاصر.
«الكتاب الأبيض».. الذي أقرته بريطانيا العظمى، وقررت بموجبه الانسحاب الكامل من مستعمراتها في شرق السويس بحلول عام 1968 تزامن مع المرافعة التاريخية للشخصية الفذة شيخان الحبشي امام لجنة تصفية الاستعمار في جنيف، وبعد جولات شاقة حصل اتحاد الجنوب العربي على وعد الاستقلال من بريطانيا بتاريخ 9 يناير 1968، غير أن صراع القوى الإقليمي كان العامل المؤثر في تغيير شكل الاستقلال، نظراً للتنافس بين القوميين ورابطة الاتحاد الجنوبي في صراعهما التاريخي.
أفضى الصراع لظهور تيار أطلق عليه الجبهة القومية تصادمت مع القوى السياسية التي كادت على وشك أن تنجز الاستقلال، لولا أن الكفاح المسلح عمل على خلق قواعد مختلفة استدعت معها بريطانيا أن تمنح الاستقلال للطرف الأقوى عسكرياً، والمعتمد على جدار الناصرية العريض آنذاك، فتسارعت الأحداث وسلمت المستعمرة عدن والمحميات الشرقية للجبهة القومية وتحقق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، أي قبل الموعد المحدد ب 40 يوم فقط. ذلك الحدث حقق الاستقلال السياسي غير أن الصراع الإقليمي الضاغط والحرب الباردة القائمة آنذاك دفعت بحكام الجنوب للتوجه يساراً واعتماد الماركسية كمنهجية سياسية عزلت البلاد بسببها وخاضت البلد حرب الوديعة مع السعودية في 1969، وبذلك تكرس واقع العزلة العربية ودفع بالبلاد بالمزيد ناحية اليسارية الاشتراكية، تلك التجربة السياسية قادت لخطأ آخر في سياق الوحدة اليمنية ثم الاصطفاف مع العراق بعد غزو الكويت لتصل المأساة إلى أبعد مداها.
في العالم العربي ثمة قاعدة مفادها أن بعد الخطأ السياسي حرب فتاكة وكذلك كان حال اليمن في صيف عام 1994 فالوحدة اليمنية التي جاءت في ظرفية زمنية شهدت سقوط جدار برلين ولم تعرف فعلاً سياسياً عقلانياً كان لابد وأن تكون الحرب التكفيرية مفرزته الخاتمة، حتى تنادت الناس ونهضت في مسيراتها المتصلة من عدن وكل أنحاء البلاد المصابة بلعنة الصراعات الظرفية الطارئة حولها. انفرط عقد صنعاء في هبوب ريح «الإخوان» العاتية وسقطت كلقمة طرية بفم «الحوثيين» وابتلعتها إيران لكنها عجزت أن تهضم الجنوب، فأصيبت بعسر الهضم وأوجاع في البطن والأمعاء فبقي الجنوب سليماً، وهنا يأتي التاريخ ذاكراً ومذكراً. وظهر في الجنوب تيار هواه لمحور«المقاومة» مناكفاً لتيار هواه محور الاعتدال، وكأن المشهد الأول يأبى المغادرة. فكما كان الجنوب عند الاستقلال الأول بتيارين كلاهما يهدف للاستقلال أحدهما يمثل «الصقور» والآخر «الحمائم»، ها هو الجنوب مرة أخرى بين فريقين لكل فريق هواه.
وحتى لا تتكرر المأساة ثمة فرصة ممكنة لاحتواء الجنوب ضمن محور اعتدال يهواه الجنوب، وهو امتداده الطبيعي والمذهبي، فيكفي من المأساة عقودها المريرة الموجعة، التي لا يجب تكرارها فهل من احتواء أو تتكرر المأساة؟.