وكأنما الدكتور سليمان الهتلان يؤكد ما ذهبت إليه في مقال نشرته في صحيفة «الاتحاد» حول المشروع التنويري لمؤسسة «سكاي نيوز عربية»، ضمن الحزمة الإماراتية المقدمة للقرن الحادي والعشرين.
فالتنوير مهمة تكفلت بها الدولة وتنطلق منها المؤسسات والجماعات والآحاد. المهمة الشاقة لها ألف ذراع، ولكل ذراع شجاع يمتلك القدرة على فتح الأبواب والنوافذ للبيوت المعتمة فيدخل النور ليحتل مكان الظلام. كان لابد من هذه المقدمة لحساسية ما جاء في مضمون حلقة من حلقات برنامج «حديث العرب» الذي تطرق لليمننة بكل ما فيها من المحذورات وكأنها من المحرمات تداولها في الفكر والسياسة العربية، وهكذا هي كثيرة المغلفات العربية المحرم تناولها برغم الضرورة المؤكدة لأهمية كسر التابوهات وفتح النوافذ، لتدخل ريح التغيير وإخراج الناس من سجون الأفكار القاتلة لرحاب الحياة المفتوحة، وهذا ما جاء بالفعل فيما يمكن عنونته ب «اليمانيون الجدد» في استعارة لمضمون القراءة حول مفهوم اليمننة كمصطلح هوية وسياسة.
اليمن عاش طويلاً في إنطوائية ممتدة عبر العصور حيث مازالت القبيلة بأعرافها وتقاليدها هي الحاكمة للدولة، وإنْ تصورَ المحيط بأن ثمة متغيرات طرأت على نمطية الدولة، فإن الإرث السياسي يتحدث عن ثورات متوالية في القرن العشرين، لكنها في واقع الحال امتداد في سياق الانقلابات الداخلية في بيت الحكم الزيْدي، فلا يمكن اعتبار ثورة 1948 و1962 بأنها ثورات لأنها لم تقم بالتغيير، واحتفظت بثوابت الحكم السياسي وفقاً للمرجعية المذهبية الزيدية.
يعيش اليمن منذ ألف ومائتي عام في تفاعلات داخلية محتفظاً بمخزونه التاريخي من تعاقب الحضارات العربية والفارسية والتركية والحبشية، التي صنعت اليمن بواقعه المعاصر. لم تنجح محاولات الانتقال من القبيلة إلى الدولة رغماً عن الاجتهادات، ورغماً عن حزن أبنائه الذين يراقبون بحسرة محيطهم الإقليمي، الذي تخطاهم وتركهم في الركن من شبة الجزيرة العربية يعملون على تدوير صراعاتهم وفقاً لنشأتهم.
فاليمنيون لطالما كانوا نافرين من محيطهم العربي، فكلما برزت حول جزيرة العرب قوة ذهبوا هم إليها وهي سُنة سنّها سيف بن ذي يزن، عندما ذهب لبلاد فارس، وعلى نهجه ذهب اليمنيون للأتراك والمصريين والأحباش، وها هم ينفرون للإيرانيين.
اليمننة المحشورة على قمم الجبال الصخرية الشاهقة صنعت خطها ونمطها السياسي وفقاً لمقتضيات الضرورة التي راعت انحسارها برغم الرغبة في التمدد المذهبي فظلت الصراعات العنيفة مع سلطنات ومشيخات الجنوب العربي الشافعية نمطاً وجودياً بين المذهبين في صراعاتهما التاريخية، وهي التي حددت شكل الحياة بل وشكل الدول بل الطقوس والأعراف، هذه الصراعات شكلت الخارطة السياسية لدول ما بعد الحرب العالمية الثانية، فحدود الجنوب العربي هي حدود القبائل الشافعية التي شكلت الدرع الحامي لمعقل الشافعية في تريم الحضرمية.
في العام 1990 تحقق لليمننة ما حلمت به طويلاً وما عجزت عنه بالحرب حققته بالخدعة والفهلوه فتمددت على طول جنوب شبة الجزيرة العربية، وتحزمت القبائل الزيدية بحزام طويل من حدود ظفار العمانية إلى باب المندب، فامتلكت السلطة على بحر العرب وامتلكت المضيق الاقتصادي. وكلما تمددت الزيدية مدد المرشد الأعلى في طهران قدماه وتنفس طويلاً.
فما بين هرمز والمندب عقيدة عابرة لصحراء العرب ولذلك فقط ترى إيران ان وحدة اليمن مقدسة فهي تعبر عن تصدير الثورة والفكرة والمذهب. هذا الطرح الفكري لم يكن ليكون لولا الشجاعة التي فُتحت من نافذة على اليمننة لتطل عليها الأفكار الجريئة لتخرجها من الظلمات إلى النور، وتخلص اليمن من تدوير صراعاته المستدامة، إنْ شاء الخروج منها. فهل سيلتقط اليمانيون الجدد فكرة تداول اليمننة بواقعية العصر، ويعملون على إحلال الدولة الوطنية مكانها.