سأحاول هنا تفكيك هذا اللغز الذي حير خبراء وإخصائيي العلوم والاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية، لكنني قبلها وحتى لا يساء فهم ما أقصده إنوه أنني لا أتشفى ولا أستخف بتضحيات الجماهير الأبية في محافظات الشمال بل وأعبر عن حزني واستيائي لكل خذلان وهزيمة يتعرض لها المقاومون الأبطال، وعن سعادتي بكل نقدم يحققونه، لكن العاطفة شيء والحقائق شيءٌ أخر لا علاقة له بالتمنيات والرغبات والمحبة والبغض.
اللغز الذي نتحدث عنه يتمثل في وجود "جيش وطني" يفترض أن تعداده أكثر من نصف مليون (والبعض يقول قرابة المليون) مقاتل بين قادة برتبة فريق ولواء وعميد وعقيد وما دونها وهم بعشرات الآلاف، وبين جنود وصف ضباط بمئات الآلاف، هذا الجيش يتلقى الدعم المادي والمعنوي بدءً بالأسلحة الثقيلة والخفيفة وطلعات الطيران الشقيق، وانتهاء بالتغذية الجيدة والمرتبات العالية وبالعملة الأجنبية، جيشٌ يمتلك كافة وسائل التفوق بدءً بالحدود البرية والبحرية والأجواء المفتوحة والدعم السخي من الأشقاء، هذا الجيش بهذه المزايا والإمكانيات يواجه عدة آلاف من المليشيات المحاصرة برا وبحرا وجوا وغير المدعومة إلآ من دولة ومليشيات لا يرتبطان معها لا بحدود برية ولا بحرية، ولا جوبة، ومع ذلك تحقق تلك المليشيات الانتصارات الخرافية على ذلك الجيش الجرار، وتستولي على مراكز استراتيجية ومحافظات مساحتها تصل إلى مئات الآلاف من الكليلومترات المربعة وتصمد في وجه الطيران الداعم لهذا "الجيش الوطني" .
فما السر في هذه المعادلة الغرائبية والسريالية؟؟
إنني هنا لا أتحدث عن ألغاز أو أساطير من الكتب الخرافية، بل عن حقيقة فاقعة تملأ الأفق المرئي وغير المرئي.
استكشاف الحقيقة الغامضة وراء كل هذا يستدعي طرح عدة فرضيات لا بد أن تكون واحدة منها أو أكثر صحيحة أو أقرب إلى الصحة
الفرضية الأولى أن القوات الحوثية هي أكثر عددا وعتادا من" الجيش الوطني" ، وهذا غير وارد لأن الشرعيين يقولون أن وراءهم 95% من سكان البلاد، بالإضافة إلى ما تناولناه من الدعم المادي والمعنوي والعملياتي من الأشقاء، فضلا عن الدعم الديلوماسي للدولة (الشرعية) التي يقاتل هذا الجيش نحت لوائها.
الفرضية الثانية أن تكون أرقام أحد الجيشين المتواجهين أو كليهما غير حقيقية، وهذه القضية لا يمكن تأكيدها أو نفيها بالنسبة للحوثيين، لأنهم لا يعلنون عما لديهم من ارقام ثم إنهم يعتمدون على الحشودات المتغيرة، لكن وزير دفاع (الشرعية) علي المقدشي أكد وفي حديث رسمي متلفز بقوله إن 70% من قواته غير موجودين في الجبهات، وقال حرفيا إنهم "يلوون في الشوارع" وأي خبير عسكري حتى محدود الخبرة يستنتج بيسر أن هذا الغياب مسكوتٌ عنه وإن الوزير نفسه متواطئ في العملية، وباختصار ذلك هو ما بسميه اليمنيون بــ"الأسماء الوهمية" أي إن جيش الشرعية الحقيقية هو 30% مما هو مدون في السجلات الرسمية.
لكن هذه الحقيقة غير كافية لفك اللغز لأن الـ 30% من الجيش الوطني يمكنها هزيمة القوات الحوثية التي قد لا تزيد عنها عدداً مع تعويض أي فارق بفارق الدعم والمساندة من الأشقاء فضلا عن القوة الطيرانية الضاربة في عمق مراكز الجماعة الحوثية والتي ليس لديها ما يقابله.
لذلك تأتي الفرضية الرابعة وهي إن "الجيش الشرعي" مخترق من قبل الجماعة الحوثية، أو إن داخل هذا الجيش وقمته القيادية من يعمل لصالح المشروع الحوثي أو بالتنسيق معه، . . . في هذه الجزئية قال لي أخد العسكريين المعتبرين أن القصة ليست فقط اختراقاً، بل أن معظم القيادات العسكرية وحتى المدنية من الوزراء والنواب والمستشارين الشرعيين لديهم أقرباء يتبوأون مواقع قيادية في جيش الحوثي ومؤسساته (الحكومية) ، والأخيرين للأسف ليسوا هم من يتبادل الخدمة مع أقريائهم في (جيش الشرعية) بل إنهم يتلقون الخدمة المجانية من هؤلاء الأقرباء لصالح (الجيش الحوثي) ومشروعه السلالي المقيت، وهذا ما تفسره لنا تلك الانهيارات المتتالية التي يتعرض لها "الجيش الوطني" فهي انهيارات مخططة بدقة ومهارة حيث لا قائد أعلى يحاسب القائد الأدنى منه بسبب هزيمة قواته ولا وزير يحاسب القادة الأدنى منهم ولا رئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى يجرؤ على محاسبة أحد من كل هؤلاء على ما حققوه من هزائم وطنية، ربما نالوا عليها التكريم.
ولا ننسى ما كنت قد تعرضت له وتعرض له غيري مراراً، وأعني هنا ظاهرة الاستثمار في الحرب، وهي ظاهرة أصيلة ومستديمة في المؤسسة العسكرية اليمنية، ففي ظروف الحرب تزداد النفقات العسكرية وتتسع دائرة الفساد ونشوء ما يسميه الباحثون ب"أثرياء الحرب" فهؤلاء ليس من مصلحتهم وقوف الحرب أو نهايتها، لأن ارياحهم ومكاسبهم ستتوقف، لذلك هم يحرصون على إطالة أمد الحرب حتى لو اضطروا إلى صناعة الهزيمة التي من خلالها سيطالبون بالمزيد من المخصصات (للانتقام) لها.
وباختصار شديد أن الهزائم التي تتعرض لها قوات (الشرعية) وما يحققه الحوثي من انتصارات متتالية ليس سببها قوة الحوثي وتفوقه العددي ولا الدعم الذي يتلقاه ولا تفوقه الأخلاقي والمعنوي، إذ ليس لديه شيئا يتفوق به في هذا المجال، لكنها تعود إلى هشاشة جبهة الشرعية ولتشار الفساد داخل "الجيش الوطني" وقياداته وغياب المساءلة والمحاسبة، ثم الانحياز غير المعلن لمعظم القيادات المدنية والعسكرية الـ"شرعية" للمشروع الحوثي وتسخير وجودها في مراكز مهمة لدى الشرعية لخدمة هذا المشروع.
ولا ننسى المفارقة الكاريكاتيرية المبكية والمتمثلة في ما يتعرض له رئيس الجمهورية، المشير عبدربه منصور هادي (باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة الشرعية) من حملات تشهير واتهام وازدراء وتحريض وتشكيك في وطنيته وكفاءته ونزاهته، واتهامه بالخيانة، من قبل المواقع الإعلامية التي يمتلكها أنصار الشرعية نفسها، حيث تترك هذه الحملة أثرها السيء على معنويات المقاتلين من قواته الذين يجري تحريضهم على إنهم يقاتلون لإعادة رئيس متهم بالخيانه وعدم الكفاءة واللاوطنية والفساد وما إلى ذلك من تهم لا أول لها ولا آخر.
وكنت قد وصفت هذه الظاهرة ذات مرة بأنها مأساة لرئيس الجمهورية، وتكمن هذه المأساة في إنه رئيسٌ لبلادٍ غير بلاده وشعبٍ غير شعبه وقائدٌ لجيشٍ غير جيشه.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى عديدة تكمن وراء تخصص الجيش الشرعي بالهزائم ومواصلة الانتصارات التي يحققها الطرف الانقلابي، مثل وجود تماسك في جبهة الحوثيين أكثر منه في جبهة الشرعية، وسوء سمعة العديد من أساطين الشرعية وقادتها وتنقل الكثير منهم في المواقف من النقيض إلى النقيض، وما تفوح روائحه من فساد وسوء أخلاق بعضهم ممن ارتبطت أسماؤهم بالسطو والنهب والطغيان طوال فترات الحكم الممتد إلى أكثر من أربعة عقود، وهو ما يجعل الشعب في الشمال يقف حائرا في المفاضلية بين مركزي الطغيان، طغيان قديم لا أمل في إصلاحه يتطلع إلى العودة لممارسة ما ارتبط به من سمعة سيئة، وطغاة جدد قائمون على الأرض لا قرق بينهم وبين نقيضهم سوى نوع الادعاء باحتكار الإسلام كلٌ على طريقته.
السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو: ألا يعلم الأشقاء في التحالف العربي بهذه المعطيات، فإن كانوا لا يعلمون فتلك مصيبةٌ، أما إذا كانوا يعلمون بها ولكنهم يتجاهلونها أو يتعايشون معها ، والمصيبة أعظم؟؟