“اتفاق الرياض” كصلح الحديبية، هذا وصف الحال بمعطيات الواقع السياسي وما أفرزته متغيرات المشهد السياسي ليس على المستوى الجنوبي فحسب بل اليمني والإقليمي كذلك، فالأحداث الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة في السنوات الخمس الأخيرة أحدثت توازنات مختلفة هي التي تحدد مسارات السياسية المستقبلية حتى وإن حاول البعض عرقلتها فالمسارات ستقود لتغييرات سيكون للجنوب حصة منها.
المنعطف في القضية الجنوبية حدث مع تحرير عدن (يوليو ٢٠١٥)، من ذلك المتغير أخذ الجنوبيون مسارهم مجْبَرون بعد التصادم مع خصومهم في الشرعية، نحو إعلان عدن التاريخي (مايو ٢٠١٧). وبإعلان قيام المجلس الانتقالي الجنوبي تشكل الحامل السياسي للقضية الجنوبية، ومباشرة ظهرت مقاومته وعرقلته مدفوعة من الأذرع المسيطرة على المؤسسة الشرعية بجناحيها حزب الإصلاح والقوى القبلية والحزبية الشمالية التي أظهرت اصطفافاً في مواجهة حامل قضية الجنوب.
كان الانتقالي الجنوبي يحاول فتح نافذة سياسية مع المجتمع الدولي سواء الأمم المتحدة أو الدول الراعية للمبادرة الخليجية، وكانت الزيارات لكلٍ من لندن وموسكو مؤشرات على أن الانتقالي بدأ يقفز من فوق الأسوار ويتحدث بهيئته السياسية دون الوصاية التي شكلت القيود التي حبست الجنوب من ١٩٩٤.
تظهر وثائق نيويورك تايمز تقاطع مشاريع تنظيم الإخوان المسلمين وإيران التي منها أن تبقى اليمن موحدة لتشكل أطول شريط حدودي مهدد لأمن السعودية، هذه استراتيجية كبرى وما دونها تفاصيل بما فيها الدور القطري بدعم الجماعات الإرهابية في المحافظات الجنوبية، ومع استمرار المحاولات للانتقالي سياسياً كان لابد لخصومه من توجيه ضربة في القلب الجنوبي لعله يتراجع، خاصة وأن إيران صعّدت منذ منتصف ٢٠١٩ باستهداف السفن في خليج عمان ثم ضرب خط النفط السعودي.
اغتيال “أبواليمامة” في الأول من أغسطس كان الضربة التي أريد بها ضرب الجنوبيين، وكان من الممكن أن تكون بالفعل قاضية لولا أن الجنوبيين استوعبوا أن عليهم فرض الأمر الواقع وأن ما حدث في يناير ٢٠١٨ كان تراجعاً خاطئاً فجاءت أحداث عدن لتفصل بين مشاريع إيران والإخوان والمشروع الوطني الجنوبي.
إرهاصات أغسطس ٢٠١٩ كانت كبيرة، فلقد أظهرت للإقليم حقيقة ما يسمى الجيش الوطني وأنه مجرد عباءة لمليشيات حزب الإصلاح، كما أن الإرهاصات أكدت للمبعوث الأممي إلى اليمن أنه لا يمكن تحقيق تسوية سياسية بواقع مختلط، فالانقلابيون الحوثيون يدّعون أن لديهم ممثلين لقضية الجنوب، تماماً كما يدعي عبدربه منصور هادي أنه ممثل للجنوب، وهو ما يستدعي اعتبار الانتقالي الجنوبي ممثلاً شرعياً له حق التفاوض بعيدًا عن مساومات الأطراف اليمنية.
إذن لماذا نفترض أن العام ٢٠٢٠ عام الاستقلال الثاني في الجنوب؟ هذا السؤال لا تفرضه الإجابة واقع الحالة اليمنية المعقدة بل واقع المنطقة التي باتت تقبل التغيير كمدخل للاستقرار السياسي، فالاحتجاجات في العراق ولبنان وحتى الجزائر وما حدث في السودان كلها معطيات واحدة تشكل الأفق السياسي للشرق الأوسط الجديد.
الوحدة اليمنية باتت منتهية بواقع المتغيرات، وهذا ما سيكون حتى وإن حاولت القوى التقليدية في شمال اليمن الاندفاع عسكرياً لتكرار احتلال الجنوب كما حدث في ١٩٩٤ – وهو أمر متوقع – فإن المآل سيكون فك الارتباط بين صنعاء وعدن لتوفير الاستقرار السياسي في جنوب الجزيرة العربية.
الأرضية السياسية ليست بذلك القدر من الصلابة للوقوف عليها، ليس في الجنوب أو اليمن، بل في كافة المنطقة المضطربة، وهو ما يستدعي جنوبياً العمل على كافة المحاور السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً، فليس من أحد يمتلك ضمانة واضحة للمستقبل غير أن تحويل المكتسبات لخطوط دفاع تبدأ باستيعاب الكوادر الجنوبية وإطلاق مشاريع طموحة تضع الدستور الاتحادي للجنوب، وتحدد بوضوح هوية الجنوب السياسية التي يجب أن تعطى فيها حضرموت ما تستحق بتسمية الدولة والتعامل بما يتطلبه الواقع من حياة الناس بمحاربة الفساد ومنع نشاطات الأحزاب الدينية ومكافحة الإرهاب.
٢٠٢٠ عام مهم في تاريخ الجنوب السياسي، إذا أحسنت قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي التعامل مع التحديات واستطاعت قراءة استيعاب التفاعل الدولي مع قضايا الشرق الأوسط واستمرت في التزامها بمكافحة الإرهاب كضرورة دولية وإقليمية. مشهد ٢٠٢٠ لن يكون سهلاً وسيحتمل ضغوطاً هائلة تماماً كما سبق فتح مكة من ضغوط أعقبت صلح الحديبية.