الليبرالية كمدخل للدولة الوطنية

2018-01-11 07:55

 

مع سقوط جدار برلين في نهاية الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين الفائت وصلت الليبرالية إلى أقصى درجاتها الممكنة فيما لم يبقَ أمام المّد الشيوعي غير الانكفاء بل مراقبة التشظي في جسد المعسكر الأحمر بالكامل، ظهرت في أوروبا وآسيا دول جديدة وتغير العالم بشكل متسارع قبيل الألفية الجديدة؛ نظريات سقطت وصمدت نظرية فرنسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ، كل هذا التشكل الذي طرأ على العالم كان فيه العالم العربي جزءاً منه وإن حاولت أنظمة عربية اعتبار ما حصل مجرداً من ارتدادات جاءت متأخرة.

 

دول أوروبا الشرقية انتقلت من المعسكر الشرقي إلى الأفكار السياسية المتحررة، بولندا والمجر ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا السابقة وحتى يوغسلافيا وحتى تلك البلدان التي خرجت من رحم الاتحاد السوفيتي واختارت نهجاً سياسياً يتواءم مع تحديات العولمة والاقتصاديات المتسارعة النمو في شرق آسيا، التحولات التي عرفها العالم مع نهاية القرن العشرين أسست لمرحلة مختلفة من العلاقات الدولية وفتحت أمام الشعوب فرص التعايش، خاصة تلك الشعوب التي عانت من ويلات الدول المُركبة بطبيعة التكوينات الثورية أو تلك التي خرجت من رحم الحرب الباردة.

 

تلقت الليبرالية ضربات موجعة تمثلت بصعود الشعبوية في معاقل الدول الليبرالية العتيدة، في بريطانيا تصاعدت الشعبوية بشكل لافت حتى وصلت لندن إلى اختيار الخروج من الاتحاد الأوروبي مما شكل صدمة في العالم، لم يتوقف الأمر في أوروبا بل إن وصول دونالد ترامب إلى رأس السلطة السياسية في الولايات المتحدة أكد أن الليبرالية تتلقى ضربات موجعة.

 

فالرئيس ترامب خرج من رحم الشعبوية وانطلق يجندل منافسيه على منصب الرئاسة وتساقطت أمامه كل مفاهيم الديمقراطية التقليدية.

 

المُرشحة للرئاسة الفرنسية لوبان كانت أيضاً قريبة من دخول قصر الإليزيه في العاصمة الفرنسية باريس، نجاح ماكرون الكاسح في الانتخابات الفرنسية 2017م كان نجاحاً لليبرالية في واقع الأمر، هذه التهديدات التي تأثرت بها ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية تُعيد القراءة الموضوعية فيما إذا كانت الأفكار الليبرالية التي قادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية 1945م قادرة على تنشيط قدراتها واستعادة حيويتها لمواجهة تحديات العصر الجديد.

 

العالم مازال يخوض في الموجات الارتدادية لهجمات مانهاتن في 11 أيلول / سبتمبر 2001م، بروز الإرهاب كظاهرة عالمية خلق إشكالية عميقة في التعامل مع أفكار متطرفة وجدت في أزمات الشرق الأوسط بيئة ملائمة لتصدير العنف، في هذه الساحة التي بدأت في العراق على أثر سقوط نظام صدام حسين في 2003م.

 

وامتدت لتضرب العُمق العربي حتى العام 2011م. من الواضح أن غياب الديمقراطية والتعددية السياسية كانت سبباً مباشراً في مآلات الحالة الراهنة في المنطقة الشرق أوسطية، افتقاد المنطقة إلى القاعدة الأساسية من المتعلمين القادرين على استحداث مجتمع مدني قادر على بناء مؤسسات مدنية تخضع لقوانين وقيم تحفظ العدالة والمساواة .

 

وتمتلك القدرة على أن تراقب الحركة الديناميكية في مجتمعات الشرق التقليدية، ما يمثله غياب الطبقة المتعلمة في مجتمعاتنا العربية هو ما يمثله في الواقع عدم قدرة تلك المجتمعات على التناول السياسي المعتدل.

 

وجد اليمن المتطرف في الشرق الأوسط البيئة الملائمة التي هي ذات البيئة التي عجزت على مدار نصف قرن من صياغة عقد الدولة الوطنية، أخذت الشعارات القومية يسارية أو غيرها نصيباً وافراً في جمهوريات الشرق الأوسط، تم تجنيد الأفكار النبيلة من ديمقراطية وحرية وعدالة ومساواة في معارك استنزاف واسعة خاضتها الشعوب دون أن تدرك أنها بدون امتلاكها لحقها في التعليم تصبح فاقدة تماماً لحق الاختيار السياسي عند الانتخابات أيّاً كانت تلك الانتخابات برلمانية أو رئاسية.

 

، فالمفقود قبل صندوق الانتخابات هو الوعي الذهني الذي يحدد مسارات التنمية والاستقرار في الدولة الوطنية، فالحاضر في أذهان الناخبين شعارات لا تتعلق بالقيم الوطنية بمقدار ما تتعلق برغيف الخُبز الذي وعدت الحكومة بتوفيره أكثر وزناً.

 

صحيح أن الليبرالية تُعاني في أوروبا وتشتد معاناتها أكثر في الولايات المتحدة ولكن بكل ما فيها فهي تبقى للشرق الأوسط معالجة جذرية لأزمات لن تجد حلولاً ممكنة بغير البناء من الأُسس المجتمعية، مواجهة الإرهاب ليست فقط بخطاب معتدل ومحاولة استيعاب المتطرفين وإذابتهم في مجتمعاتهم المأزومة أصلاً، فالمعالجة الحقيقية من امتلاك القناعة أن بناء الدولة الوطنية في عالمنا العربي هو هدف يجب الذهاب إليه.

 

والشرق الأوسط والعربي منه يمتلك نماذج تذهب إلى الدولة الوطنية بقوة وبخطوات واضحة، فالمستحيل أن تبقى الشعوب العربية تعالج أزماتها بأزمات مستحدثة، والمستحيل أن تجرؤ هذه الشعوب على محاولة بناء الدولة الوطنية الجامعة المتكاملة مع جوارها.