ما تحتاجه الشرعية؟

2017-03-17 18:18

 

الصراع اليمني بين تحالف الانقلابيين والسلطة الشرعية برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي، لا يبدو أنه يتجه نحو الانفراج عن طريق تنازلات متبادلة بين الطرفين حرصا على ما تبقى من البشر والأرض والبنية التحتية (الفقيرة أصلا)، ومع إنني من ألد أعداء الحروب والحسم العسكري، ولا أكره شيئا مثلما أكره أخبار القتل والقصف ومشاهد الدماء والجراح، لكن لا يبدو لي أن الانقلابيين يأبهون لنفاد مخزونهم البشري وتنامي عدد الأرواح التي تزهق والدماء التي تسيل، فهم مبرمجون على الموت في كل شيء من شعاراتهم إلى ممارساتهم وسلوكهم ومن وعيهم الباطن إلى عقولهم الظاهرة.

 

في حديث لأحد القادة العسكريين الموالين للشرعية قال هذا القائد أنه لا يمكن المقارنة بين الجيشين المتحاربين، مبينا أن الانقلابيين استحوذوا على كل أسلحة الجيش اليمني ومكوناته، لكن القائد نسي أن المعركة ليست فقط أفرادا وعتادا (على ما لهذين العنصرين من أهمية) بل هي قبل كل شيء إرادات وسياسات وتكتيكات واستراتيجيات، كما نسي صاحبنا أو تناسى أن معظم القدرة التكنيكية لتحالف الحوافش قد دمرت وأن قوات الشرعية تحظى بدعم وتأييد ومساندة التحالف العربي الذي سخر كل القدرات الجوية والبحرية والبرية والمالية والدبلوماسية للتصدي للتحالف الانقلابي.

ما يمكن التأكيد عليه هنا هو أن حسم المعركة لا يقتضي بالضرورة النصر العسكري وسحق أحد الطرفين للطرف الآخر، بقدر ما يقتضي التسخير الأمثل لنقاط التفوق في سبيل تحقيق النصر في زمن أقصر وبكلفة أقل، وفي هذا السياق يمتلك المعسكر الموالي للشرعية نقاط تفوق عديدة لا يحوزها الانقلابيون، ومنها سيطرة الشرعية على أربعة أخماس مساحة البلد غنية بالثروات والموارد، قليلة السكان سهلة الإدارة والاستثمار، ذات مرافق حيوية من منافذ برية وبحرية وجوية يمكن أن تشكل موردا قويا لرفد خزانة الدولة ومواجهة نفقات التشغيل والبناء والإعمار والتنمية، لكن لا يبدو أن الحكومة تأبه للاستغلال الأمثل لهذه الموارد وتسخير عائداتها لمواجهة الأزمات المتصاعدة في مجالات الخدمات والنفقات الجارية وتعزيز الأوضاع الأمنية وتحسين بيئة الاستثمار، ويبدو لي أن داخل صف الشرعية من لا يزال ينظر إلى الجنوب على أنه أرض معادية لا تستحق النهوض والتنمية والاستقرار، فضلا عن تلك الفكرة الخرقاء لدى الكثير من النافذين في معسكر الشرعية التي يرى أصحابها، أن تنمية الجنوب ستقوده إلى الانفصال، وكأن جعجعة الجنوبيين والتنكيل بهم وتعذيبهم واستمرار حرمانهم من أبسط متطلبات الحياة هو من سيحبب الوحدة في نفوسهم.

 

للأسف الشديد ما تزال حكومة الشرعية تدير مناطق نفوذها (وهي أغلب مساحة البلد) بعقلية المقاتل وليس بعقلية الطامح لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة بدء من الآن لا انتظار المجهول الذي لا أحد يعلم متى قدومه.

كان كاتب هذه السطور قد تناول مرة هذه القضية في موضوعة بعنوان " هزيمة التحالف الانقلابي بدون حرب"(1) أشرت فيها إلى  إنه يمكن للحكومة الشرعية "أن تتخذ من نقاط تفوقها مرتكزا للبدء ببناء الدولة على الأسس التي ما انفكوا يعدوننا بها، بغض النظر عن تحفظاتنا على الصيغة التي يطرحونها،  ومن ثم الشروع في البناء المؤسسي وتحويل الدولة من فكرة وأمنية إلى واقع ينمو ويتطور ويتجذر على الأرض" وهذا يقتضي رسم مشروع جاد وطموح وفعال يشمل بناء منظومة الاستثمار وإعادة تشغيل شركات النفط والغاز المتوقفة، وبناء المنظومة الأمنية المركزية والخاضعة لقيادة واحدة وتثبيت دعائم جهاز الدولة الإداري والمالي والخدمي في المحافظات المحررة، وباختصار شديد الشروع في بناء الدولة بكامل أجهزتها ومنظماتها وأركانها القانونية والتنفيذية والقضائية والخدمية والتنفيذية.

 

 إن هذا المطلب ليس مستحيلا وهو في متناول أيدي القائمين على السلطة لكنه يستدعي الإرادة والإبداع والسهر والمتابعة والابتكار والمحاسبة وإجادة اختيار الكادر الذي يضطلع بهذه المهمات المتشعبة والمتعددة.

هذا ليس مطلبا تعجيزيا ولا هو حالة ترفية يطالب بها الناس من باب (الدلع) والبذخ، بل إنه ضرورة حتمية لوفاء السلطة بواجباتها وبرهان شرعيتها، لأن الشرعية لا تعني شيئا عندما يغيب وترتفع كلفة المعيشة وتنتشر  المجاعة ويعمل الناس أشهر طويلة بدون رواتب، وينامون وهم خائفون من الغد القريب، دعك من المستقبل المجهول، لا بل إن النجاح في هذه التحديات هو سلاح في المعركة مع الطرف الانقلابي الذي يفترض أن عاجز عن تقديم شيء للناس الذين يتسلط على رقابهم.

 

مرة أخرى أقول أن هزيمة المشروع الانقلابي لا تستدعي بالضرورة سحق الانقلابيين عسكريا، بل التفوق عليهم سياسيا وأخلاقيا وقانونيا ومهنيا وعلى الشرعية أن تعلم أن المواطن لا يهمه من هو الشرعي ومن هو غير الشرعي بقدر ما يهمه من يوفر له الأمن والاستقرار والتطبيب والتعليم والحياة الآمنة وفرص العمل ويحميه من المخاوف والأدواء والأوبئة والبطالة والفقر، ومن ينجح في هذا فهو الشرعي بحق، والشرعية تستطيع أن تفعل ذلك إن هي وظفت ما لديها من نقاط تفوق.