أظهرت ثورة الحراك السلمي الجنوبي على مدى ما يقارب 8 سنوات مستوى نادرا من التسامح والاندماج الوطني بين كل القوى السياسية الجنوبية بمختلف أطيافها كما بين المناطق والانتماءات القبلية والجغرافية بكل اتجاهاتها وهي ظاهرة قليلا ما تشهدها مجتمعات من بلدان ما كان يسمى ذات يوم بالعالم الثالث، وربما كان شعور الجنوبيين بأن الظلم الذي يتعرضون له على مدى عقدين هو ما يوحدهم كما قال الشاعر العربي أحمد شوقي:
فإن يك الجنس يابن الطلح فرقنا إن المصائب يجمعن المصابينـا
وقد تجسدت وحدة الجنوبيين في معركة مواجهة الانقلاب والغزو الثاني خلال الفترة (مارس ـ يوليو) 2015م واختلطت الدماء بالدماء وكانت الأرواح تتعانق في معركة المصير تعبيرا عن الهم الواحد والهاجس الواحد والحلم الواحد والقضية الواحدة لكل الجنوبيين.
تقول الحكمة الهندية " لاشي يوحد الناس أكثر من العدو ولا شيء يفرقهم أكثر من النصر" ومع إن الانتصار الجنوبي الكامل ما يزال بعيدا فإن ما تحقق حتى الآن كان يكفي ليتعلم الجنوبيون المعنى العميق للتماسك والتضامن والتوافق على ما يجمعهم ببعضهم من قضايا مصيرية هي أكبر من مجرد قواسم مشتركة مؤقتة، لكن الأمنيات والأحلام الجميلة نادرا ما تجد من يدركها ويعمل على تحويلها إلى حقائق على الأرض.
منذ أسابيع تتعالى نبرات لا تخلو من نكهة مناطقية وجهوية يرتدي بعضها مظهر النقد والنصح لكن غالبها يخفي تحت هذا الرداء نزعة المناطقية والجهوية بل والقلبية والعشائرية الغريبة التي ودعها الجنوبيون منذ عقود ووضعت فعاليات التصالح والتسامح مداميك متينة لطمرها في ثنايا التاريخ.
نعم لا يمكن نكران ترسب بقايا هذا النوع من الثقافة في قاع الوعي اليومي للكثير من البسطاء، وهذه البقايا لا بد أن تنتعش تحت تأثير أية كذبة أو إشاعة أو استثارة ( زائفة) من تلك التي تنتشر بفجاجة هذه الأيام في محاولة لتحريض الجنوبيين على بعضها والهدف الأساسي من كل هذا هو تفكيك الصف الجنوبي والانتقام من ذلك التلاحم الذي تجلى بأروع صوره في الثورة الجنوبية السلمية ثم في المقاومة الجنوبية المسلحة والتي حققت ما لم تحققه كل القبائل الماهرة في تاريخ المواجهات المسلحة والمؤلفة من مئات الآلاف من المقاتلين الأشداء عندما استسلمت لجماعة الغزو والانقلاب خلال ساعات فقط، بل إن بعضها لم يواجه هذه الجماعة بطلقة رصاص واحدة.
خلال الأسبوع المنصرم قرأت عشرات المنشورات المريضة التي يتحدث أصحابها عن هيمنة منطقة معينة على الجنوب أو خطورة منطقة على بقية المناطق، فهذا كاتب من بعدان يحرض أبناء حضرموت ضد أبناء الضالع ويخيفهم بالخطط الضالعية للسيطرة على حضرموت، ويبدي قلقا على حضرموت من أبناء الضالع أكثر من قلقه على بعدان وكل محافظة إب من سيطرة الحوثيين.
وقبلها وبعدها شاهدنا عينات كثيرة من تلك البضاعة التالفة المعروضة لمن يعتقد أصحابها أنهم من السذاجة بحيث يبتلعون الطعم بهذه السهولة، ولا يعلمون أن الجنوبيين قد فهموا الدرس جيدا وأنهم لن يقعوا مرة أخرى في ما أوقعهم فيه صانعو الأفخاخ وحفارو المطبات على مدى 25 عام من دق الأسافين وزراعة الفتنة واستنبات الثارات ورعايتها وتوسيع رقعتها.
نعم الشعب الجنوبي لم تعد تنطلي عليه الأكاذيب والتدليسات والألاعيب القذرة التي تصنعها مطابخ الانقلابيين وحلفاء 1994م، لكن هذا لا يمنع من التحذير من خطورة تلك الألاعيب اللعينة، فتأثير وانتشار رائحة جيفة واحدة أسهل بمئات المرات من انتشار رائحة أنهار من العطر لإيصاله إلى كل المستهدفين، فذلك يستدعي جهدا استثنائيا وعملا خارقا ليس كل من يرغب في فعله قادر عليه.
ما تزال المواجهة مع المخاطر في أوجها وما تزال المعركة في بدايتها ولن يقدر الجنوبيون خوض معركة المصير والانتصار فيها إلا إذا خاضوها متحدين متكاتفين ومتسابقين على العطاء والتضحية والفداء لا على الغنائم أو المكاسب أو المصالح الوهمية والمؤقتة التي لن تؤتي ثمارا إلا التفكك والانقسام والتراجع في المعركة المصيرية وما معركة 2015 عنا ببعيدة.