انقاض المكينون ، حصن ثوب وحصن العر
سرنا بخطى واسعة فوق الممر الناعم من الراسب الطفالي وسرعان ما ملأ ظل جدار الوادي الذي كنا نسير عبره بطن الوادي . واختفى النهار العنيف الذي يعمي البصر ، واتخذت سماء المساء ألوانا ناعمة مرحة انعكست فوق الريف الهادئ بحانب الممر شجيرات آوت إليها بعض الطيور ، عصافير ونوع من الحمام ، قليل الحياء فمزق سكون المكان وجموده . ينمو الأراك و الطرفاء هنا بكثرة ، حيث يوجد دائما ماء في مجرى السيل وسرعان ما عبرنا الدلتا الواسعة لـ ´´ سبعة وديان ´ التي تصب في الوادي الرئيسي وصلنا بعد ساعتين ونصف من السير المتواصل إلى فغمة في ظلام حالك وطرقنا باب المنزل ، الذي قضينا فيه بضع ساعات أثناء النهار الحار في رحلة رواحنا وبالرغم من أن رب الدار قد أوى إلى مضجعه مع عائلته فوق السطح ، الا انه جاء في الحال وفتح لنا الباب وخصص لنا جزءا من السطح وغطاء من شعر الماعز ومخدرات ملطخة بالدهن .
وعندما استقر كل واحد منا ليرتاح تبدت قافلتنا من الظلام ، واستقبل الرجال بدورهم بحفاوة بالغة وخصص لهم مكان في سطح آخر .
غادرنا فغمة في فجر اليوم التالي ، الثالث من يونيو ١٩٣١م ، قبل أن تشتد الحرارة ، ووصلنا السوم ، فزرنا مرة أخرى مضيفنا السابق ، استقبلنا بحفاوة زائدة وأدخلونا المجلس الكبير ، كنا نريد أن نكتب ونرتاح ، فأرسلنا من يتحسس إمكانية وجود غرفة صغيرة لنا وفي الحال أخلوا الغرفة العامة ووضعوها تحت تصرفنا . وكنا نرغب أن نتحرك مبكرا عند الظهر لنشاهد مجموعة الأنقاض عند (مكينون وثوب والعر) قبل مغيب الشمس تقع مجموعة الأنقاض المعروفة باسم المكينون بالقرب من السوم في اتجاه الحائط الشمالي وتقف بقايا المباني القديمة بارزة فوق السهل مثل كومة من الركام ، و بئرها الآن مليئة إلى نصفها بالحجارة فشلنا في العثور على حجارة بها نقوش يتصل مع هذه الأكوام فضاء شاسع يتخذ منه أهل المنطقة مقبرة ؟ ووضعت حجارة في دوائر وقطع ناقصة يقال إنها توضح القبر وقوم عاد حسب التقليد السائد قبيلة من العمالقة ، و تنسجم أبعاد هذه الدوائر والقطع مع هذا الفهم .
ليس لدينا وقت للقيام بأعمال الحفريات ، هناك مجموعات أخرى من الأنقاض تحتاج إلى تنقيب وتبعنا دليلنا ضد إراداتنا وأدرنا ظهرنا للمكينون وتبعناه إلى وادي سيخور. أمكننا أن نرى في البعيد تلاً عاليًا يرتفع فوق أنقاض ، لأ بد أنها كانت في يوم من الأيام قلعة فموقعها يدل على هذا فهناك أشياء كثيرة مشتركة مع أنقاض القلعة في العر، فهي تقف فوق تل مشابه يبرز من الوادي الرئيسي ، على مسيرة نصف ساعة فقط غربا .
تسمى أنقاض القلعة عند مدخل وادي سيخور حصن ثوب . يبلغ ارتفاع المنحدرات الحاده في الصخرة الضخمة ما يقارب 300 قدما ،مغطاة بالحطام وفي سفحها بئر ،وعلى قمتها بقايا حائط طويل إلى حد ما ، لكن بلا نقوش . يمكن تفسير قلة النقوش الموجودة هنا ، بالمقارنة مع وفرتها في أرض اليمن الجبلية ، إذا نظرنا إلى حضرموت باعتبارها تقع على حدود مملكتي السبئيين والمعينيين ومن رأي البرفسورهوردمان من برلين ، الذي درس وفك الرموز التي أحضرناها معنا ، أن أهل حضرموت اشتهروا بقدراتهم القتالية منذ زمن بعيد وحسب قوله فقد ورد اسم البلاد وملوكها في أكثر النقوش السبئية قديما ، ومرة أخرى في النصوص اللاحقة .
وقد قيل الكثير عن الحروب مع حضرموت ولا توجد أدلة توحي بأن الحضارم قد قهروا في أي وقت بواسطة جيرانهم السبئيين والمعينيين وفي زمن علماء الإسكندرية كانت لهم مملكة منفصلة وتم تسجيل هذا بإجماع موثوق به وكان لهم إلههم القومي سين ، مثلما كان للمعينيين عشتار، وللسبئيين إلمقة ، ولشعب قتبان آم وأنباي وحافظوا أيضا على لهجتهم حتى القرن السادس من عصرنا .
على أي حال ، يبدو أنه كانت هناك حروب كثيرة ، وأن قلعتي ثوب والعر كانتا بلا شك ، تحصينات عسكرية يشير هذا إلى أن البلاد كانت منطقة بين حدود المملكتين ، ومن الطبيعي ألا تكون أنسب مكان لوضع نقوش وما كانت التخوم الدفاعية أبدا مراكز للثقافة . إضافة إلى ذلك فالحجارة هنا لا تساعد على الحفر : إنها هشة جدا كل النصوص التي فك رموزها مورتمان نقوش عبادات لإلههم سين .
رجعنا من حصن ثوب سيراً إلى الوادي الرئيسي الذي ما زالت تقف في وسطه فوق صخرة ضخمة وحيدة ، بقايا جدران حصن العر بجدرانه الشاهقة هنا قابلنا القافلة ، ووحدنا جهودنا ، وحاولنا أن ننتزع قطعة من الصخر المنحوت ملتصقة بالجدار بالأسمنت فوق الجزء الأعلى من بقايا الجدران ونجحنا بعد جهد كبير فاتضح أننا انتزعنا تاج عمود مبيض من حجر رملي ، منحوت نحتا جيدا خاصة في جوانبه الأربعة . كان تاج العمود ثقيلا جدا ولا يمكن حمله على جمالنا ، لذلك وضع فون فيسمان الرسم الذي أبرزناه هنا وتتضح جلياً من أجزاء رأس العمود التي لم تتحطم ، مقدرة الفنان الذي نحته في الأزمنة القديمة . يبدو أن النحات رسم مناظر صيد إذ يظهر في أحد جوانبه رجال فوق خيولهم يقاتلون أسوداً ، وفي جانب آخر نسخة طبق الأصل للوعل بالغة الجودة ، وهو حيوان يلعب دورا كبيراً في الفلكورالشعبي في حضرموت وما زال صيد الوعل الرياضة المفضلة عند الحضارم ، بالرغم من أنه يجد معارضة شديدة من زعمائهم الدينيين على أساس أن الأحتفالأت التي تصحبه ذات جذور وثنية وقرون الوعل الثقيلة المتشبعة والمنحنية بجلال إلى الخلف ، ما زالت توضع اليوم نصبا تذكارية تزين واجهات كثير من المنازل في حضرموت استخرجنا مرة أخرى الحجر الصغير المنحوت الذي وجدناه في الأنقاض ودفناه عند ذهابنا . هذا الحجر مسطح ومن نفس رأس عمود الحجر الرملي الأبيض ، ويظهر أن به في الأمام والخلف نحتا طبق الأصل يمثل عنقود عنب مع بعض الأوراق ،وهو حافز يظهر أيضا هنا وهناك في الجوانب المزخرفة لرأس العمود كنا نرغب في أخذ هذا الحجر معنا إلى تريم لنضمه إلى المجموعة الصغيرة التي في حوزة مضيفنا . وبعد إصرار شديد وافق قائد القافلة على هذا ، لكن عندما أرغمنا حلول الظلام على مغادرة العر ، لاحظنا أن صاحب الجمال ، الذي كان معنا بشخصه ، كان يحمل الحجر على كتفه فهو يعتقد أنه سوف يؤذي جمله ، رغم أن الجملين كانت حمولتهما خفيفة جدا ، وكان هو يجري سريعا ، ويقفز ، وما إلى ذلك ، ولم يكن الحجر عائقا له .
*- السيد هاشم بن يحي – وادي حضرموت