لست خبيرا ضليعا في القضايا المالية والمصرفية والنقدية، لكنني أعرف أن البنك المركزي لأي بلد هو بمثابة القلب للكائن الحي الذي يخزن ويوزع الدم الى كل خلايا وأنسجة وأعضاء الجسم وما يستلزمه ذلك من عمليات متنوعة ومتعددة ومعقدة لا نهائية، ثم إعادة استقبال الدم بعد أدائه لوظائفه ليواصل الدوران من جديد في عملية متواصلة لا تتوقف إلا بتوقف الحياة ونهايتها.
هكذا أفهم البنك المركزي (لأي دولة) على إنه ليس فقط وعاء لحفظ المخزون النقدي (المحلي والاجنبي) وتوزيعه على سائر القطاعات الاقتصادية لضخ الحياة في اقتصاد البلد بل إن يمثل مركزا مهما للحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي في الدولة والأسهام في تعزيز النمو الاقتصادي والسيطرة على التضخم وتخفيض البطالة، هذا فضلا عن مهام أخرى من بينها صياغة وتنفيذ السياسة النقدية للدولة وإصدار النقد (العملة الوطنية) ومراقبة الجهاز المصرفي وإدارة نظام المدفوعات وتنظيم الائتمان والإقراض وإدارة أحتياطي العملة الأجنبية والعمل كمصرف للحكومة وللمصارف التجارية العاملة في البلد وتحديد الحد الأدنى لسعر الفائدة بهدف ترشيد السلوك الاستهلاكي والاستثماري للفرد والمجتمع.
قرار نقل البنك المركزي كان من المفترض أن يتم بمجرد نقل العاصمة الى عدن لكن يبدو أن موانع فنية وربما أمنية قد حالت دون تحقيق ذلك وهو ما اقتضى فترة زمنية يمكن القول إنها طالت نسبيا ﻹزالة تلك الموانع وتهيئة الظروف لتوفير الضمانات التي تجعل القرار يحقق الغايات المرجوة منه.
مجرد النقل وحده لا يكفي ولو زودته بأفضل الكفاءات وعززته بأقوى الحراسات، بل إن هناك مجموعة من الشروط التي لا بد من تحقيقها لضمان نجاح هذا الإجراء منها:
1. ربط حركة الاقتصاد بالمقر الجديد للبنك وإدارته الجديدة.
2. التحكم بالمنافذ البرية والبحرية والجوية للبلد لضبط حركة التجارة والجمارك والضرائب والواردات النقدية والتحويلات وربطها بالمقر الجديد للبنك.
3. ربط كل الموارد المالية للبلد بما فيها عائدات الثروة السيادية كالنفط والغاز وجميع الصادرات اليمنية بالهيئة الجديدة والمقر الجديد للبنك
4. حصر القوى العاملة في البلد لدى سجلات الحكومة الشرعية
5. الحصول على قدر كافي من السيولة النقدية بالعملتين (المحلية والأجنبية) لضمان تسهيل تدفق ودوران النقود في عروق العملية الاقتصادية في البلد.
هذه كلها شروط فنية لا علاقة لها بالصراع السياسي بها وبجانبها شروط أخرى يمكن أن تتحكم الحكومة في الحياة الاقتصادية ومواجهة المشاكل المختلفة المتراكمة منها والمستجدة.
يمكن لنقل البنك المركزي الى عدن أن يشكل جزء من تضييق الخناق على الانقلابيين ومنعهم من التحكم بالسياسات والموارد المالية لخدمة سياساتهم وأهدافها الانقلابية وتبديد موارد البلد في حربهم العبثية المدمرة على كل الشعب في الشمال والجنوب، وبالمقابل ينقل عنصر التحكم في الحياة الاقتصادية من أيدي الانقلابيين الى يد السلطة الشرعية.
لكن هذا القرار من ناحية أخرى يعفي الانقلابيين من مسؤولية تلبية حقوق كثيرة هم أصلا لم يقوموا الا ببعض منها وبصورة رديئة جدا وبالمقابل ينقل المزيد من المسؤليات لإلقائها على كاهل الحكومة الشرعية ومن هذه المسؤوليات:
1. توفير متطلبات الدورة الاقتصادية من الأوراق النقدية الضرورية لتسيير عجلة الحياة التجارية والخدمات وغيرها من الاستحقاقات الاجتماعية.
2. توفير مستحقات موظفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري والأمني من المرتبات وما في حكمها.
3. رسم سياسة نقدية تستجيب لسياسات الدولة (الشرعية) وتستوعب متطلبات التنمية المفترض التخطيط للبدء بها.
4. رسم برنامج عاجل للشروع في بنا المناطق المتضررة من الحرب على الأقل للمناطق المحررة لأعادة إعمار ما دمرته الحرب الانقلابية العدوانية.
5. تهيئة مدينة عدن لتغدو ليس فقط مجرد عاصمة رمزية للبلد بدلا من العاصمة المخطوفة (صنعاء) وهذا يتطلب برنامج عاجل ليس فقط لإعادة الإعمار بل لتوفير بنية تحتية محترمة تليق بعاصمة دولة يفترض أنها عازمة على اللحاق بالعصر ومتطلباته.
وستقف حكومة الشرعية أمام معضلة تتعلق بما يمكن تسميته مستحقات أنصار الانقلاب (ناهيك عن مستحقات موظفي الدولة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين) ، فهل ستقوم السلطة الشرعية بصرف ( مستحقات) الموظفين في المحافظات الشمالية، وكيف ستتصرف مع مئات الآلاف من الأسماء (الحقيقية أو الوهمية ) التي تم إلحاقها بقوائم الموظفين الحكوميين في القطاعين المدني والعسكري من قبل الانقلابيين؟
ختاما أشير إلى أن قرار تعيين الأستاذ أحمد عبيد الفضلي وزيرا للمالية هو القرار الأصوب الذي كان يفترض أن يتم منذ وقت مبكر لما يتمتع به الرجل من سمعة طيبة وخبرة عشرات السنين في المجال المالي وما يتصف به من نزاهة يشهد له بها خصومه ومحبيه.