انتصار الجنوب... رددوه حتى بددوه

2015-10-28 07:25

 

الجنوب ممتلئ بالفراغ مترع بالاسترخاء المثير.. لقد غلب الطبع على عقليات الجنوبيين ولم يستشعروا المسئولية الحقيقية لتأمين بلادهم بعد الحرب وتمكينها من البحث في ملفات المستقبل.

 

كانوا يسيرون نحو المعركة ببسالة منقطعة النظير تعكس العطش للحرية والإنفلات من القهر وهو أمر طبيعي.. وربما كان الظلم في عهد الوحدة هو الوقود الحقيقي لاستبسالهم وتحقيق الانتصارات، وفعل ذلك في عزائمهم أكثر مما فعلته "المرْيَمات" في الإسناد الجوي، لكن الجنوبيين مع كل ذلك لم يفهموا ماذا بعد.

 

حين حقق الجنوب استقلال ٦٧م، كانت خطوته الأولى هي تغييب العقل والدخول في غيبوبة النشوة بـ "الانتصارات اللانهائية" ضد الاستعمار والرجعية واليمين واليسار الانتهازي... الخ، وتوالت المعارك الوهمية خارج متطلبات العصر المتمثلة في تحقيق النهضة الاقتصادية الشاملة وبناء مجتمع مستقر ليس وفق أنماط الشطط الثوري ولكن وفق التغيير العقلاني وتحديث الواقع وترسيخ أعمدة الاستقرار والاندماج المجتمعي الكامل.. واستمرت عبقرية العبث حتى طفح الدم فوق الهام.

 

الآن يغرق الجنوب بالنشوة ومايزال في أول الطريق تاركاً الفراغ ينهش في محصلة  التضحيات الجسيمة.

 

إن أخطر ظاهرة تمس وجود الجنوب كوطن وكشعب هي استدعاء رموز الماضي، وهذه الظاهرة تعتبر آية من آيات الخالق في "العبط".. لأننا حين نقلّب في وعاء العقل البشري "ضرورات" الإحتباس في جوف زعامات الماضي البائس، نجد أن العقل يعيش مرحلة ارتداد سلبي كالصدى الذي يزمجر في الخواء، أو كالفلاحة في أرض نضب جوفها.

 

هي لعبة الإفلاس وكأن مشارق الأرض المحيطة ومغاربها عاقر لا تلد سوى قادة لم يحققوا في حياتهم غير شقاء بلدانهم وتعاسة شعوبهم، وظلت الشعوب من ورائهم عاجزة عن "نسخهم" ومجبولة على استنساخهم في أحسن الأحوال.

 

ليس للجنوب قدرة الآن في أن يمارس إملاءات المنتصر أو يقرر شيء.. فهو يعيش سكتة الإرتباك، وزحمة التهافت حول جسد الجنوب المسجى في حضرة "الراقصين مع الذئاب"، فلا يوجد للجنوب صوت واحد ولا هيئة واحدة ولا "نيلة" واحدة حتى، فالكل زعماء، وكل منطقة تروج لرموزها وكل شارع أو حي لديه نخبة ووجوه "تتداحش" باتجاه الشهرة والريادة في عالم صناعة الوهم.

 

يجب الاعتراف أن الجنوب، مثلما لم يكن جاهزاً في كل تاريخه لتحديد الاولويات بعيداً عن خداع الذات، ليس جاهز الآن في ظل اللعب بأوراق الزعامات التي خسفتها أحداث الزمن المرّ. 

 

هذه ليست سياقات تعبوية لتضخيم التشاؤم لكنها حقائق صادمة، والجنوبيون بحاجة ماسة بأن يُصعقوا بهذه الحقائق علها تصنع إفاقةً للوعي من الخدر العقيم، لأن عقليات مقززة يجب تجاوزها ولأن مسوخ سياسية يجب محو تأثيرهم من حاضر الجنوب، وبدون ذلك سيبدد الجنوب وجوده للمرة الاخيرة.

 

الجنوب بحاجة لأن ينتصر على ذاته وأن يستبدل الشطط بالعقل، والجنوب بحاجة إلى المفاجأة (الـ ليست عهدية)، وهي كنائية ترمز لأمور مُنتظرة وغير معهودة، ولا تشبه مفاجئات فخخت مسيرة الجنوبيين منذ عقود، لأن ذروة الشدة الآن وضرورات البقاء تحفز على استجماع اليقظة الحقيقية، وهذا ما ننتظر حدوثه.