الرئيس قحطان الشعبي في جنيف ينحني إجلال وإحتراما للورد شاكلتون كبير المفاوضين البريطانيين في محادثات الاستقلا نوفمبر 1967م
"من التاريخ السياسي للجنوب العربي من دراسة للمؤرخ محمد شعبان صوان"
* الصف الأول من قيادة الجبهة القومية بعد الانقلاب على قحطان الشعبي يونيو 1969م
لم تكن بريطانيا تريد البقاء في الجنوب العربي، واتخذت قرار الانسحاب، وفي ذلك يقول همفري تريفيليان آخر مندوب بريطاني سام في عدن: "وصلت إلى عدن في 20 مايو 1967... وقد تحددت مهمتي في إجلاء القوات البريطانية وإخلاء مخازنها بسلام... في مايو 1967 أصبح من الخطأ أن ننظر إلى الماضي..."،[30] أي أن المهم هو تأمين الخروج وعدم توريط الجيش البريطاني في اضطرابات محلية، ولم يعد بإمكان الإنجليز البقاء في عدن بعد رحيلهم من إفريقيا، وكانت قاعدة عدن لحماية الخليج وليس من المنطقي بناء قاعدة في الخليج لحماية عدن،[31] كما لم يعد لعدن أهميتها السابقة بصفتها محطة على طريق الهند بعد استقلال شبه القارة وتطور وسائل المواصلات، وقد أرهقت بريطانيا نفقات جيوشها وما تدفعه من مساعدات لحكومة اتحاد الجنوب العربي، وكان انسحابها جزءً من انسحابها الشامل من الشرق العربي بعد تراجع مكانتها من دولة عظمى إلى دولة من الدرجة الثانية بعد زفرتها الأخيرة في أزمة السويس سنة 1956، وكان ما يهمها في عدن الآن هو أمان مصالحها المتمثلة آنذاك بمصفاة عدن.
كان الإنجليز يدركون أن حكومة اتحاد الجنوب ضعيفة وهشة ولا يمكنها أن تصمد لأية ضربة ناصرية توجه إليها بعد خروج الجيش البريطاني، وفي ذلك يقول همفري تريفيليان: "لقد كان الموقف (عند وصولي) متدهوراً بما فيه الكفاية، إذ كنا قد أعلنا أننا سنغادر بحلول عام 1968، الثورة نشطة، وسلطة السلاطين في دولهم القروية على المرتفعات كان يسندها فقط وجود القوات البريطانية القليلة التي بقيت في الداخل، لقد كان الاتحاد يفتقر إلى الأهلية وأصبح بلا قوة ولم يعد يستطيع أن يؤثر على الأحداث".[32]
وكان الإنجليز يدركون مدى الخطر المصري على وضعهم في عدن، وقد جاء في تقرير لجنة فاينر التي بدأت عملها في بداية عام 1966 عن متطلبات اتحاد الجنوب بعد الانسحاب البريطاني: "هناك أربعة تهديدات للاتحاد قبل الاستقلال، فالتهديد الرئيس الخارجي يأتي أولا وقبل كل شيء من الوجود المصري العسكري الضخم في (شمال) اليمن.. ومن غير المحتمل أن الجيش المصري سيقوم بغزو الاتحاد، ولكن مصر ستصعد من التخريب والإرهاب مستخدمة الوسائل التي أصبحت معروفة الآن"،[33]
ولم يغب عن الإنجليز أن المصريين سينتهزون أول فرصة تتاح لهم لإسقاط هذا الحكم الضعيف ليأتوا بحكم موال لهم وفقاً لتريفيليان: "في ذلك الوقت كان هناك حزبان ثوريان: جبهة تحرير جنوب اليمن، ويواليها نصف العدنيين بمن فيهم معظم الطبقات المهنية، زعماؤها الأساسيون... تدفع لهم مصر معاشاتهم، أما عصاباتهم العاملة في الجنوب فكانت قوة مصرية تقريبا، تدرب وتسلح ثم ترسل بواسطة المخابرات المصرية في (شمال) اليمن... واستعداداً للصراع بعد الاستقلال كانت الجبهة تدرب جيشاً من 1200 مقاتل قوي تم تدريبهم في مصر و(شمال) اليمن، وتنبأ ناصر في حديث مع أحد زواره في هذا الوقت أنه بعد الاستقلال ستقع اضطرابات دموية لمدة ثلاثة أيام ثم تقوم حكومة ثورية، والحزب الرئيس الآخر هو الجبهة القومية التي كانت تعارض جبهة التحرير بشراسة رغم المحاولات المصرية لتوحيد الحزبين".[34]
ثم يوضح تريفليان أن بريطانيا لم تكن مستعدة لدعم حكومة الاتحاد الضعيفة التي لن تلبث أن تسقط عند الضربة الأولى، وقال إن المشكلة كانت هي أن تقوية الحكومة الاتحادية والاعتماد عليها في تسلم السلطة يجعلها تطالب بضمان حمايتها، وقد كانت الحماية ممكنة ضد الخطر الخارجي، ولكن الخطر المتوقع لم يكن خارجياً بل داخلي من تحرك الثورة مدعومة بمتسللين من الخارج فور انسحاب القوات البريطانية، وقيام حكومة ثورية تطلب التدخل المصري كما حدث في صنعاء، وهو تهديد يختلف عن التهديد الذي واجهته الكويت بعد استقلالها (1961)، وذلك لأن حكومة السلاطين في الجنوب العربي ليس لها دعم شعبي وهناك عدم استقرار داخلي وهذا هو الفارق الرئيس بين الحالتين، فكيف يمكن مواجهة هذا الوضع وحكومة الاتحاد قائمة "ولا يمكن أن نقلبها بشكل قانوني"،[35] وهو ما يوضح أن اتجاه السياسة البريطانية كان نحو التخلص من هذه الحكومة وأن العقبة كانت في المبرر القانوني، ولهذا اختار الإنجليز الدعم الظاهري، ولكن "لم يكن هذا نهاية المطاف"، لأن هناك شكوكاً قوية في قدرة حكومة الاتحاد على قيادة البلاد نحو الاستقلال، فقد أصدر المندوب السامي بياناً أعلن فيه النية لإقامة حكومة انتقالية مكونة من جميع الأحزاب واستعداده للاتصال بجميع القادة لهذا الغرض.[36]
كانت الظروف الموضوعية قد جمعت الإدارة البريطانية والجبهة القومية في طريق واحد منذ البداية، فلم يكن الإنجليز بحاجة إلى تمرد الجيش الاتحادي في 20 يونية/ حزيران/ جوان 1967، الذي أفقد حكومة الاتحاد ركيزتها الرئيسة، ليحكموا عليها بالضعف والفشل، فقد توصلوا إلى هذه النتيجة مبكراً، كما لم يكن المندوب السامي تريفيليان بحاجة إلى الرد على تهم سلاطين الجنوب وجبهة التحرير المدعومة من مصر بأن الإنجليز يدعمون الجبهة القومية على الأرض،[37] وهو أمر اعترف تريفيليان ببعض حوادثه العسكرية التي لم يتوفر مثلها لجبهة التحرير من جانب الإنجليز،[38] بل إن الأمر امتد إلى حد توصية بعثة الأمم المتحدة التي مالت كثيراً إلى جبهة التحرير "بألا تتجاهل الجبهة القومية"،[39] فلم تكن الظروف وحدها هي التي تعمل في صالح الجبهة القومية كما حاول المندوب السامي أن يوهم قارئه، ولم يكن وضعه حيادياً كما ادعى،[40] ذلك أن الإنجليز أعلنوا منذ البداية خشيتهم من الخطر المصري وأتباعه في الجنوب العربي، ومن الطبيعي أن يعملوا على استبعاد أنصار مصر من التسوية النهائية وهو أمر أعلن الساسة الإنجليز عنه منذ البداية أيضاً ولم يكن سراً مخفياً رغم الادعاءات الإعلامية بالتفاوض مع الجميع،[41] وهي بروتوكولات ظاهرية لا قيمة لها.
ولأن السياسة البريطانية كانت تسليم القوميين حكم المستعمرات بعد خروج الجيوش البريطانية منها اتساقاً مع موجة القومية العربية التي لم يكن الإنجليز مستعدين لمواجهتها لاسيما أنها كانت تحظى بدعم العالم الآسيوي- الإفريقي والعالم الشيوعي بالإضافة إلى الأمريكيين في ذلك الوقت،[42] فإن الجبهة القومية في اليمن كانت هي الخيار البريطاني الوحيد لحكم عدن بعد الاستقلال، لاسيما بعدما أعلن الجيش الاتحادي الذي كان البريطانيون يسيطرون عليه انحيازه لهذه الجبهة ودخل الصراع إلى جانبها ضد المنافسين، فأوصت الإدارة البريطانية في عدن بوجوب الاعتراف بحكم الجبهة وتسليم السلطة إليها، ورد المندوب السامي على حكومته في لندن والتي رأت وجوب عدم الظهور بصورة من يضع الجبهة القومية في السلطة ووجوب الحرص على أن يكون التفاوض معها بناء على طلبها، فرد تريفيليان بالقول إنه لا يوافق على ذلك وإنه أصبح من الواضح أنه لا خيار إلا تسليم الجبهة القومية وليس هناك أحد غيرها،[43]
وبالفعل دخل الطرفان في المفاوضات التي بدأت في 22-11-1967 وانتهت بخروج آخر جندي بريطاني في 29-11 وبإعلان الاستقلال في 30-11-1967 وذلك قبل الموعد المحدد في عام 1968، وذلك على أساس تقديم 12 مليون جنيه مساعدة للدولة الجديدة لمدة ستة أشهر مع الوعد ببحث تقديم مساعدات أخرى فيما بعد وتعهد النظام الجديد بحماية الأجانب وممتلكاتهم.[44]
* - الأمير جعبل بن حسين العوذلي مع المستر هارولد جارد مراسل وكالة يونايتد برس الاخبارية في منطقة مرتعة حدود سلطنة العواذل مع اليمن