تحدثت في مقال سابق بعنوان (سلمان يرسم الخريطة الجيوسياسية في المنطقة) عن التغيير الاستراتيجي في المنطقة العربية عموماً والخليج خصوصاً ؛ والذي قاده الملك سلمان ؛ وقلنا أنَّ قرار الملك التدخل في اليمن كان إعلان تحوّل الخليج من مربع المهادنة السياسية إلى مربع المبادئة السياسية والعسكرية لحماية أمنه القومي .
وتغيير أي حكومة استراتيجيتها في خوض الصراعات يجب أن يواكبه تغيير في فكر المجتمع ؛ والفكر الذي نعنيه هو مايسمى بالعقل -أو الوعي- الجمعي للمجتمع . وإذا لم يحدث التغير بشكل تلقائي ، فالحكومة تقوم بعملية تغييره ، عن طريق إطلاق حملات توعية وتوجيه تدفع المجتمع إلى التغيير المطلوب .
والتغيُّر التلقائي عادةً مايحدث في المجتمعات المثقفة والمتقدمة علمياً . وهذا حدث فعلاً في دول الخليج ؛ فأنتج ديناميكية شعبية خليجية تماهت مع حكومات بلادها ، وتفاعلت معها تفاعل إيجابي . وظهر المواطنون الخليجيون وهم يستقبلون جثث أبنائهم العائدة من اليمن بكل فخر ، معتبرين ذلك تضحية لابدَّ منها من أجل الوطن .
والإختلاف في المستوى والشكل لردود الفعل الشعبي بين دول الخليج مؤشر على القناعة الشعبية ؛ فكل شعب عبَّر عن قناعته بحدود وعيه الجمعي . . . أما لو كانت ردة الفعل بمستوى وشكل موحد لكل دول الخليج ؛ كنا قلنا أنَّه خنوع واستسلام للسلطات . . . والإماراتيون تميَّزوا بأداء شعبي جعلهم في المرتبة الأولى ، أو هكذا قدموا انفسهم .
كان الموقف الشعبي الإماراتي أمام مقتل العشرات من جيشهم وإصابة العشرات في يوم واحد دليل على المستوى العالي من الإدراك لأهمية المعركة ؛ فتقبلوا الخسائر البشرية بإيجابية ، وأعلنوا عن استعدادهم لتقديم غيرها من الخسائر..!!!
بل تجاوزوا تقبل الخسائر إلى توظيفها توظيف وطني متقدم ؛ بتحويل المصاب الجلل إلى مشروع تعزيز التلاحم والترابط الوطني الإماراتي ؛ بين أفراد الشعب أنفسهم ؛ وبين القيادة والشعب....؟
فالمواطنون وبشكل كبير ، من كل الإمارات ، اندفعوا بشكل تلقائي لمواساة أسر الشهداء ؛ أشعروهم أنَّ لهم نصيب من هذا الحزن الذي هم فيه . . . ولم تمضي غير ساعاتٍ من نهار إلَّا وقد أفرغت حنايا ذوي الشهداء من الحزن ، فالشعب الأماراتي أخذه منهم واقتسمه...!!
ومشايخ البلاد بادروا لزيارة ذوي الشهداء "أسرة أسرة" لمواساتهم . . . كل المشايخ إبتداءً بالشيخ محمد بن راشد أل مكتوم والشيخ محمد بن زايد إلى أصغر شيخ ؛ لم يمنعهم مانع عن ذلك ، في أحد الأيام بدأ الشيخ محمد بن راشد في الصباح الباكر ولم يتوقف إلَّا آخر الليل . . . هكذا تمت صناعة التلاحم بين القيادة والشعب ؛ عندما تأكد المواطنون أن المشايخ لايقلون حزناً من ذوي الشهداء .
وقد يقول قائل ؛ للقيادة هدف خفي من هذه الزيارات وهو شعورهم بالذنب بسبب إرسال أبنائهم للموت دفاعاً عن دولة أخرى ليست الإمارات...؟
وحتى هذه الشبهة تمكن العقل الجمعي الإماراتي من تجاوزها بفعل التلاحم الشعبي الذي ذكرناه سابقاً ؛ فعندما كان مشايخ البلاد يزورون ذوي الشهداء كانوا يفاجئون بطلب ذوي الشهداء الالتحاق بالجيش لإكمال المهمة التي استشهد فقيدهم قبل أن تنتهي..!!! وهذا معناه أنَّ الإماراتيين عسكريين ومدنيين مع قرار القيادة .
وهناك مشهد ثالث للتلاحم كان بطله الجنود المصابين ؛ فعندما زارهم الشيخ محمد بن زايد كانوا كلُّهم يطالبونه إعادتهم إلى ساحة المعركة بإصرار مُلفت ، قال بعضهم "أصابتي لاتمنعني من القتال" !!! أنا جندي وأفهم هذه العبارة ، معناه ؛ أعلم أن إصابتي تؤلمني وتعيقني عن كثير من شؤون حياتي ، لكنَّها لاتمنعني المنع المطلق من القدرة على القتال حتى الموت .
وعند هذا المشهد نتوقف لأهميته ، ونبدأ بتعريف مختصر بالجنرال محمد بن زايد ؛
هو ذلك القائد العسكري الذي اعتاد السير أمام جنوده ، لا أحد يعرف بماذا يفكر ، حتى وسم بالمهابة الكفاءة والقدرة ، التي ألزمت جيشه السير خلفه بثقة مطلقة دون سؤال أو استفسار ؛ هذه الصفات جعلت أي ضابط يفكر ألف مرة قبل الإبتداء بالحديث أمامه ، أو طرح مقترحات ..
فما الذي حدث..؟ ماهو مصدر جرؤة الجنود المصابين للحديث بتلك الطلاقة مع الجنرال..؟ ..
السبب والمصدر هو روح اللحمة الوطنية بين أفراد الشعب "مع بعضهم البعض" ، وبين الشعب والقيادة ؛ جعلتهم كيان واحد ، بعزيمة وإرادة صلبة واحدة . فأصبح كل فرد -عسكري أو مدني- يتحدث نيابة عن الكل "شعب وقيادة" ؛ يُعبِّر عن ثقة بالنفس ، ويقول "أنا إماراتي مكاني في ساحة المعركة"
وهذا المفهوم -الإرادة الواحدة- هو الذي وصل إلى عقل الجنرال المهاب ؛ قرأه في وجه رجاله ؛ ولذلك لم يقابله بغرور الجنرالات ، بل بتواضع العظماء ، وقام بتقبيل أيدي الجنود المصابين . . .
وتقبيل أيديهم لم يكن حالة عاطفية فرضتها الرأفة بالمصابين ، بل قرار قائد بتكريم الأيدي التي حملت السلاح ولم ترتعش ، ورغم أصابتها لم تنكسر ، ومازالت تحن للقبض على الزناد بلا خوف ولاتردد ، وهي التي جعلت حلم الجنرال حقيقة ؛ فعندما بنى هذا الجيش خلال العقود الماضية كان يهدف أن يكون جيشه عينة مصغرة للإمارات...؟
"عينة في الأخلاق والشجاعة والعزيمة والإرادة والتلاحم" وكان له ما أراد فالجيش كان الأساس في صناعة اللحمة الوطنية الشعبية التي حدثت اليوم ، وهو أيضاً سبب التغيُّر الشعبي التلقائي الذي جعل الانتقال الاستراتيجي من حالة المهادنة إلى المبادئة انتقال واحد للشعب والقيادة .
هذا المشهد الإماراتي القصير زمنياً الكبير جداً بمعاينة ، كبير جداً ، جداً جداً ؛ يعتبر صورة كاملة للوضع في كل شعوب الخليج ؛ وهو حالة من حالات الانتقال الفكري الشعبي الكبرى والنادرة ، والتي تحدث في الثورات الكبرى فقط ، ودليل على الحالة الفكرية الديناميكية العالية التي وصلت إليها شعوب الخليج ، وبها يديرون دولهم ومصالحها .
وللحديث بقية ،،،