محتويات الفراغ العربي

2015-09-17 10:06

 

الكون ليس كتلة صماء ممتلئة بذاتها، أو جمادا لا حراك فيه، بل في الكون فراغات هائلة تتحرك داخلها الأجسام بمختلف أحجامها. ومع ذلك يصبح الحديث عن الفراغ المطلق أمراً غير علمي، فهو ليس الخواء أو اللاشيء، إنما هو وسط له طاقة ومحتويات غير محسوسة ويتمدد بشكل مطرد، أي أنه فضاءٌ تتحرك وتسبح فيه المادة الكونية وتصبح أشكالها وحركتها في متناول الإدراك، فبين المادة والفضاء علاقة جوهرية كمتلازمين كونيين، لأن الأخير هو ما يجعل للمادة بأبعادها مدلولا حسيا!

 

ربما لـ»محتويات الفراغ» كمفردتين رابطة إيقاعية تنافرية، لكنها، في الواقع ليست كذلك، إذ أن لها توافقا علميا ومنطقيا، والبحث فيها ليس أمرا رياضيا، بل هو سياقات مفهومة ومتكررة تناولها الكثيرون بقوالب ومسميات مختلفة.

 

ومحتويات الفراغ العربي تحمل دلالة على أن هناك فضاءات محملة بالطاقات السلبية والأجسام المنطفئة والثقوب السوداء والبقع المظلمة، وبالصراعات والنزاعات… الخ، تملأ المشهد خواء وخوفا ويسبح بداخلها الوجود الفيزيائي المادي للشعوب العربية، التي أحيلت جراء الفراغ ومحتوياته المأساوية تلك، إلى أمة هامشية لا مكانة لها، تعيش على رصيف الحضارة رغم تاريخها الزاخر.

 

إن أكثر ما يمتص ألوان العرب الحيوية هو التغنّي المضني»بالواحدية».. واحدية الجذور، واحدية المنشأ، واحدية الدين، واحدية المذهب وواحدية الدولة المنتظرة والخليفة… الخ، والإصرار على «تغميس» قماشة النسيج الاجتماعي العربي في «صبغة» واحــــدة، وهذا سبّب الكثير من الارتباك في البناء السيكولوجي للفــــرد والمجتمع. العرب كأمة نسيج متصل بفعل روابط متعــددة، لكن فيه اختلافات في الثقافات وتباينات في الالوان والمشـــاهد، وهناك تعدد ديني وعرقي ومذهبي وطائفي وسياسي.. والتعددية تلك امتلاء خلاق وحيوي قد يسد الكثير من الفراغات المخيفة الآتية من خلفية مركزية المفاهيم للماضي والحاضر والمستقبل، إذا ما تم التعامل معها (التعددية) وفق مقتضيات الدساتير الديمقراطية كمرجعية قانونية تحتكر أولوية الولاءات.

 

مفهوم جداً أن العرب يعانون، منذ ما بعد الفترة الكولونيالية الطويلة، من ركود وتعثر الدولة الوطنية في سياق تطورها المفترض، حيث تتعمق حالات العجز جراء الاستبداد والفساد والتبعية والتطرف وهي، مجازاً، أعراض طافية لحالة «الشلل-الفراغ» في الوقت الحاضر، فالفراغ ينفخ الجسد العربي جراء فشل ضخ الدماء النقية فيه، حيث ظل الحاكم يرعى خمول المجتمع واستكانته، ويسخر المادة والعقل من أجل حكمه المستدام، ويواصل كثير من فقهاء الدين اجتهادهم في اختطاف المجتمع العربي إلى كوكب أجرد منعزل تتنازع فيه الأديان والطوائف، وتتشعب الاختلافات حول شؤون السماء ومقاربات عذابات القبر. كما أن شرائح المثقفين والعلماء لا تمثل استثناء، لأنهم مقطّعو الاوصال مبرمجون، وفقاً لقواعد التنشئة والبيئة، للخدمة في مجالات متشاحنة في ما بينها، من دون اعتبارات حقيقية حتى للقواسم الوطنية أو القومية المشتركة التي لا تقبل التأثر بالخلافات والانتماءات الأيديولوجية أو غيرها.

 

لقد سئم المتابع من الطروحات والسرديات الغليظة المتكررة، حول أوضاع المنطقة، التي باتت متابعتها تسبب خدوشاً في الأمزجة، ويؤدي إعادة طحنها إلى العزوف عن سماع المستغرقين في الدّق على طبول القوالب الجامدة، ونحت المفردات المتخشبة، فالكتابات حول الواقع العربي أصبحت هي الأخرى من فرط تكرارها فراغاً فاقدا للحس الطري المتجدد، حيث تحول بعض الكتاب الى إبل تعصر زيتاً بذات المواصفات والأروما.

 

نحن بحاجة الى قراءة سيكولوجية لـ»متوسط الشخصية» العربية، لنرى المؤثرات التي تُعمق فيه هذه الندوب الروحية، وبالمثل يحتاج المجتمع الى تحليل علم النفس وتشخيص الأعباء الجاثمة على صدره، التي أحدثت فيه هزالاً ويباساً وترهلاً، وشحنته بحالة الاستلاب، وحمّلته أثقالاً من الانتماءات المعنوية بأشكالها المختلفة.. انتماءات للحاكم الرمز وللقبيلة والطائفة… الخ، وأخيراً ذهبت به الى أتون الصراعات التي تجاوزت كل الحدود، وتنذر بأن تفكك النسيج الجامع للعرب كأمة. لقد كان «الربيع العربي» فرصة لإيقاف حالة (تفريغ) العقل العربي منذ القرون الاخيرة، لكن تم تفريغ الربيع (ذاته) وتــحويله الى فوضى مستعرة تشابكت داخلها كل الاحتقانات التاريخية والصراعات الجيوسياسية.

 

وكتتويج لمحتويات الفراغ المستعرة، هناك نزيف بشري عربي كبير إلى أوروبا، كتل تُزاح لتزاحم الفراغ الذي تركه العرب خلال تاريخهم المعاصر في حضارات شمال المتوسط، وتضيف له محتوى مظلماً وشحنات طازجة للإسلاموفوبيا، وربما تزيد فصلاً للسرديات الخرافية التي يبتدعها الروائيون الأماجد مثل الخيال الحكائي، الذي قاربه الفرنسي ميشيل ويلبيك في «خضوع»، حول مشهد سيحل بفرنسا بعد أقل من عقد زمان، حيث سيفوز مرشح «الأخوية الاسلامية» للرئاسة ليبدأ زمن التحولات «الحتمية» نحو أسلمة المجتمع. وتلك مفارقة تجسد حالات الغرب الذي ساهم بشكل مثابر في صنع مآسي الراهن العربي، وفي جانب آخر تصيبه ارتدادات ذلك الواقع بل أنه يصور تلك الارتدادات كتهديد حيوي ليس لحضارته وحسب، بل لكياناته القومية من خلال التغيير الحاسم للسحنات الديموغرافية في المستقبل المنظور، مما يجعل من شعوب أوروبا وعاء تتساكن فيه أوجاع القادمين ومخاوف المستقبلين.

 

الفراغ العربي بحاجة إلى أن يأخذ مدى محددا، فلا يوجد سحر يغير ما به ليملأه بحياة كونية طرية وسريعة، ولكن حين يسير إلى مداه فإن هناك حاجة تدريجية لتجديد الخلايا لتوقف حالة (الغرغرينة) عن الجسد، وتحول الفراغ، في عملية تاريخية، إلى فضاءات تتقاطع فيها بدايات جديدة ويصبح فيها صوت العلماء الحقيقيين مسموعاً في كل مكان. ولقد تعلمنا من التاريخ بأن النور ينبع حين تصبح الظلمات أشد حُلكة، والتنوير يصبح ضرورة جامعة بعد أن تبلغ المآسي مبلغاً لا يُحتمل.