لست من المعولين كثيرا على مؤتمر الحوار اليمني في الرياض، لسبب بسيط هو إن المتحاورين فيه هم أنفسهم من تحاوروا على مدى عشرة أشهر في صنعاء واستكملوا حوارهم بالبندقية والمدفعية والدبابة والطائرة والصاروخ، وكان ما كان من مخرجات مؤتمر صنعا، ولأن طرفين رئيسيين غائبان عن الحوار، الأول هو العنصر الرئيسي في أزمة اليمن الراهنة، والصاعق الذي أشعل الانفجار وأشعل الحريق الذي صار إطفاؤه صعبا إن لم يكن مستحيلا، أي الجماعة الحوثية والجناح المتحالف معها من مؤتمر علي عبد الله صالح، والثاني هو المقاومة الجنوبية التي باستماتتها وصمودها أذهلت أصدقاءها وأعداءها على السواء ومعها الحراك الجنوبي السلمي الحقيقي، وغياب هذين الطرفين عن مؤتمر يستهدف حل الأزمة اليمنية وهما طرفان رئيسيان وفاعلان فيها يجعل منسوب المراهنة على نجاح هذا المؤتمر منخفضا، وهذا لا يعفينا من التمني بالخروج بأفضل النتائج، كما لا يمنعنا من التطرق إلى مجموعة من القضايا المهمة ونحن نتطلع الى ما يمكن أن يعتبره البعض الخروج عن المألوف القاتل في حياة اليمنيين والمتمثل في اعتماد ما تصنعه الكواليس من حيل ومخادعات، وإهمال ما تقوله الحقائق على الأرض، ومن بين الكثير من القضايا المفصلية يمكننا التعرض لما يلي:
١. إن الوضع الإنساني الذي تمر به المناطق المنكوبة في اليمن ومنها عدن ولحج والضالع وأبين يصعب وصفه ويكفي أن نعلم أن أسرا كاملة تقضي أياما كاملة لا تجد ما تأكله وقد لا تجد ما تشربه بعد أن منعت عنهم مليشيات الحوثي وصالح إدخال المواد الإغاثية الدوائية والغذائية وفجرت خزانات المياه ونهبت المستشفيات واعتدت على الطواقم الإسعافية ونهبت محطات الوقود وسطت على البنوك واستولت على مرتبات الموظفين الحكوميين وكل هذا الوضع يضع هذه المناطق ومناطق أخرى على حافة كارثة إنسانية محققة إن لم تكن قد حلت بها الكارثة فعلا، وهو ما يحتم عليكم وضع هذه القضية على رأس الأولويات لمؤتمركم، وإلا فسيكون الحديث عن الوحدة والجمهورية والدولة والشرعية والثورة وغيرها ترفا عبثيا وسلوكا مستفزا لمشاعر الجوعى والعطشى والجرحى وذوي الشهداء والختطفين، فماذا ستفعلون لمواجهة هذا التحدي الصارخ والمرعب؟
2. ان اعتماد نتائج حرب ١٩٩٤م كمقدس غير قابل للتناول لا يمثل فقط عنادا سياسيا وتمسكا صبيانيا بمنهج الاستقواء والغلبة، بل إنه منهاج قاتل يدمر ليس فقط ضحايا هذه الحرب الذين تكاثروا وتناسلوا وتضاعف عددهم على مدى عقدين مريرين من عمر الجنوب، بل قد يدمر كل اليمن، إن تبقى فيها ما يمكن تدميره، وسيكون من بين الفضائل التي ندعو لها شركاء هذه الحرب وهم اليوم شركاء في الحوار في الرياض الإقرار بأن الوحدة لا تقام بين طرفين أحدهما تحت الاحتلال والآخر هو الاحتلال، وحتى لو صمدت وحدة كهذه لبعض السنوات الإضافية بفضل الحرب الأخيرة التي ليست سوى استمرار لسابقتها، فإن البناء القائم على أساس رخو سينهار ولكن بعد أن تتضاعف كلفة إزالة آثار الانهيار فهل ستبحثون عن حل أقل كلفة من الحرب ومن الانهيار ؟
3. لقد طالبناكم منذ منتصف تسعينات القرن الماضي بإزالة آثار هذه الحرب، وهي آثار مدمرة بكل ما لمفردة التدمير من معاني حقيقية ومجازية، ولكنكم، ومن منطلق الغلبة ونشوة الشعور بالنصر (الزائف) اعتبرتم هذه المطالبة حنينا إلى استرجاع المصالح (وفي الحقيقة لا يمكن نكران أن الجنوب خسر كل مصالحه) لكن هذه المصالح ليست هدايا ورشوات كان النظام الجنوبي السابق يوزعها على المواطنين، لأنه لا يوجد نظام يرشي كل الشعب، بل كانت مصالح حياتية ومصيرية تبدأ بالخبز والدواء والماء والسكن والتشغيل ولا تنتهي عند المواطنة والانتماء والهوية والتاريخ والثقافة والكينونة الوطنية والسياسية، ومن يتخلى عن هذه المصالح إنما يتخلى عن آدميته وإنسانيته وكرامته، وقد كان من نتيجة تعنتكم ورفضكم إزالة آثار حرب 1994م إن انتفض الشعب الجنوبي في ثورته المباركة التي استهدف من خلالها استعادة أرضه ودولته وكيانه السياسي والوطني، وهو حق كفلته كل التشريعات والمواثيق والقوانين الأرضية والسماوية، ولذلك نقول لكم أيها الأعزاء! كفوا ولو مرة واحدة عن التعالي واتباع نهج المغالطة والخداع، واستمعوا ولو مرة واحدة لصوت الشعب الجنوبي، وتمحصوا ما في هذا الصوت من أنين ومرارة واستبطنوا ما يخزنه من عزيمة واستبسال وإصرار على مواصلة نضاله حتى بلوغ كامل أهدافه، ووفروا علينا وعليكم ضريبة التصادم المستمر الذي لن ينتهي إلا بما يريده شعب الجنوب.
4. لقد راهن الكثير من الجنوبيين على مؤتمر صنعاء للحوار، وتوقعنا أن اليمنيين قد انتقلوا من زمن الكولسة والتآمر وحياكة الدسائس والمكائد إلى زمن المقارعة بالحجج والبراهين وتلاقح الأفكار وتفاعل المبادرات، لكنكم خيبتم كل رهاناتنا هذه وأكدتم لنا أن الخديعة هي السلاح الأول وأن المكر والاستغفال ما يزالان سلوكا أصيلا يأبى الكثيرون منكم عن التخلي عنهما، وقد لاحظنا كيف واجهتم مطالب شعب الجنوب باستعادة دولته، واستكثرتم عليه أن يكون إقليما واحدا في إطار دولة مدنية يمنية واحدة، وهو مطلب يستدعي عملا أسطوريا ليرتضيه شعب الجنوب، وبدلا عن كل هذا رحتم تفكرون كيف ستقسمون الجنوب بين نافذيكم ومراكز قواكم، وكيف تدقون الأسافين بين الجنوبيين أنفسهم، وكان مكر الله أقوى من كل الماكرين وصدق وهو القائل في محكم كتابه “وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” (آل عمران ٥٤).
5. إن الجنوب اليوم يذبح من الوريد إلى الوريد وهذه المرة بفرية “الدواعش”، وهي أكذوبة نعلم وتعلمون ويعلم الذين أطلقوها أنها زائفة مثل زيف أكذوبة “الشيوعيين الكفار” في ١٩٩٤م وقد تجاوز ضحايا الحرب الأخيرة على الجنوب الخمسة آلاف من الشهداء منهم حوالي ٦٠٠ من النساء، وما فوق الـ ٨٠٠ من الأطفال، ومن بين هؤلاء ١٢٣ أسرة ابيدت بكامل أعضائها رجالا ونساء وأطفالا ومسنين،[i] فضلا عن تدمير المدن تدميرا شبه كامل أو جزئي في كل من عدن والضالع والحوطة وزنجبار وعتق ولودر وغيرها من مناطق الحرب، وهذه النتائج التي لا تلوح لها نهاية قريبة في الأفق مضافة الى نتائج حرب ١٩٩٤م تؤكد استحالة بقاء دولة يمنية واحدة على قيد الحياة وهو ما يحتم الاستماع إلى مطالب الجنوبيين والاستجابة لها اختصارا لزمن المعاناة وتوفيرا للطاقات التي نهدرها معا في سبيل غاية ثبت بالملموس استحالة تحقيقها.
6. إن اقتتال اليمنيين وتناحرهم ليس قدرا محتوما لا فكاك منه، كما إن البديل لهذا الاقتتال والتناحر لا يمكن أن يكون واحدا وحيدا فقط وهو إلحاق أحد طرفي اليمن (الطرف الجنوبي والطرف الشمالي) بالطرف الآخر كما هو حاصل اليوم، واليوم وبعد أن ثبت استحالة استمرار الصراع والاقتتال مثل استحالة التوحد والاندماج فإن أمام الشعبين في اليمن فرصا كثيرة أخرى غير الاقتتال والاستباحة وغير التبعية والغلبة وهي فرص التعاون والتعايش وحسن الجوار وبناء المصالح المشتركة والبحث عن ممكنات مستقبلية لخدمة نهوض الشعبين بعيدا عن الخصام والحرب والعداوة، وبعيدا عن اجواء الغلبة والاجتياح (ولو تحت مسمى الوحدة) كما هو قائم اليوم وهو ما يقتضي من المؤتمرين أن يعملوا العقل ويبحثوا عن بديلٍ جديدٍ لا يحمل بين طياته عناصر تفجير قادم لحروب مدمرة بعد كل الذي عاناه الجنوبيون من سياسات الاستقواء ونزعات الضم والإلحاق.
إن نجاحكم في الإجابة على الأسئلة التي تتضمنها هذه الحقائق وحقائق أخرى متصلة بها أو متفرعة عنها، هو ما سيحدد مدى نجاحكم في الاقتراب من حقائق الواقع والابتعاد عن مكائد الخداع ونزعات الاستقواء، وإلا فإن يومين في الرياض لا يمكن أن يكونا أكبر من عشرة أشهر في صنعا من الأحاديث والخطابات والتصريحات التي انتهت إلى لاشيء كبير يغطي كل مساحة اليمن ويدفع بها نحو الهاوية بعزيمة وهمة لا تلينان