مبنى البريد العام في حي كريتر - عدن
الطوابع البريدية تمثل تراثًا ثقافيًا هامًا لكل شعب من الشعوب.. الخدمات البريدية في عدن.. تاريخ ضارب في القدم
بدأت خدمات البريد في عدن منذ فترة قديمة جداً، ففي العام 1839م افتتح أول مكتب بريد فيها، وفي العام 1930م انضمت عدن للاتحاد البريدي العالمي، وفي نفس العام تم إصدار أول طابع بريدي في عدن بالمعايير الدولية، وكانت إحدى الدول الخمس المؤسسة للاتحاد البريدي العالمي.
لقد كان لبريد عدن دور هام ومتميز في تقديم الخدمات البريدية السريعة والارتباط بالعديد من دول العالم والدول المجاورة، وفي عدن تغنى العديد من الشعراء بدور البريد وخدماته، ومنهم الشاعر والفنان محمد سعد عبدالله الذي قال في إحدى أغنياته (كلمة ولو جبر خاطر ولا سلام من بعيد ولا رسالة يا هاجر بيد ساعي البريد)، وغيرها كثير من الأغاني التي تغنى بها الفنانون وجعلوا من البريد همزة وصل بين المحبين والمشتاقين لأهلهم وذويهم.
كانت الطوابع البريدية القديمة في عدن يكتب عليها اسم العملة في عدن مثل (آنه أو عانه) ثم بعدها (السنت) وهي كسور الشلن، واللافت للنظر أن أقدم طابع بريدي في عدن رسم عليه صورة الملك (جورج السادس) والد الملكة (إليزابيث) الثانية، ورسمت كذلك عدد من السفن في وجه البحر، وفي الجانبين الأيمن والأيسر من الطابع رسم عليه خنجران وفي أسفله كتبت كلمة (أنا) بالحروف العربية، وجاء بعده طابع رسم عليه وجه الملكة (اليزابيث الثانية) وقد توّج رأسها بالتاج البريطاني الشهير، وفي وسط الطابع تظهر منارة كريتر الشهيرة وخلف المنارة قلعة صيرة التاريخية، وفي أعلى الطابع كلمة “عدن” بالحروف العربية وبجانبها رقم (5) وأسفلها كلمة (سنت) بالحروف العربية وتحتها كتبت كلمة (ADEN)، وهذان الطابعان يعدان من أقدم الطوابع في تاريخ الطوابع البريدية في عدن.
أما حضرموت الساحل فطابع بريدها كان يكتب عليه باللغتين العربية والإنجليزية ما يلي: الدولة القعيطية الحضرمية (بريد القعيطية الحضرمية)، وفي أعلى الصورة كلمة عدن بالإنجليزية بالحروف الكبيرة، وتظهر في أعلى اليمين صورة السلطان القعيطي وهو مرتدٍ الزي الهندي أو زي المهرج الهندي، ومن المعروف أن سلاطين الدولة القعيطية نشأوا في أحضان الهند من الصغر، أما بالنسبة لحضرموت الداخل فكان لها طابع بريدي خاص بها كُتب عليه باللغة العربية (حكومة سيئون وحضرموت) وصورة لأحد سلاطين الدولة الكثيرية وهو مرتدٍ عقالاً، وتوجد أيضاً طوابع بريدية خاصة بالمهرة والمملكة المتوكلية اليمنية.
في إحدى مكاتب البريد في عدن استوقفني فضولي وأنا أشاهد أحد الأشخاص كبيرا في السن وهو يحتضن ألبومًا كبيرًا جمع فيه عددا كبيرا من الطوابع البريدية القديمة لمختلف البلدان والدول القديمة، وبحكم حبي لكل المتعلقات القديمة الخاصة بعدن اقتربت منه وبعد التحية والسلام سألته وطلبت منه أن يسمح لي بالتعرف على فحوى ذلك الألبوم وما يحتويه من طوابع أيام زمان التي يحتفظ بها فعرفت منه أنه من هواة جمع الطوابع البريدية منذ سن مبكرة من عمره الذي تجاوز الـ 75 عامًا، وهنا بادرته بعدد من الأسئلة حول هذه الهواية والهدف منها والدافع الذي دفعه لممارسة هذا النوع من الهوايات النادرة، فأجابني محدثي التربوي القديم توفيق عبده حسين قائلاً: “منذ سن التاسعة من عمري وأنا أحلم بأن أسافر إلى بلدان العالم خارج مسقط رأسي عدن، وربما هذا الشغف نظرًا لأن عدن تعايشت فيها مختلف الجنسيات القادمة من شتى بقاع الأرض، فكان فيها الأوروبيون وخصوصًا الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون، وكانت توجد جاليات كبيرة من الهندوس ومن شرق أفريقيا، ويبدو أن ماشاهدته في صغري لهذه الجنسيات المتنوعة قد غرس في نفسي حب السفر والتجوال في شتى بلدان العالم، والحقيقة أن طبيعة نفسي منذ سن مبكرة كانت قلقة تمل من البقاء في مكان واحد، ودائمًا تتطلع للجديد وتركض إلى حياة جديدة، ولكن الظروف أجبرتني أن أبقى في عدن ولا أغادرها”.
**الطوابع مرجع تاريخي للباحثين**
ويضيف توفيق عبده حسين: “وقبل أن أسترسل في الحديث عن كيفية بداية هوايتي وحكايتي ومشواري الطويل مع طوابع البريد، لابد وأن أعطيكم فكرة قصيرة عن نشوء وانتشار الطوابع في أنحاء العالم، فطوابع البريد تمثل للباحثين مرجعًا تاريخيًا هامًا، وسأتحدث عن ذلك بالتفصيل وكيفما كان الأمر، فإن أول من اخترع الطوابع البريدية ووضعها في الرسائل هي المملكة المتحدة (بريطانيا) التي أطلق عليها (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس)، وكانت هذه الطوابع البريطانية من الراجح أنها تريد أن تثبت للآخرين مدى اتساع رقعة إمبراطوريتها في أنحاء إنجلترا وتداولتها في إمبراطوريتها وتريد أن تؤكد ارتباط مستعمراتها بها، ولهذا فبريطانيا هي الدولة الوحيدة التي لا تكتب اسم بلادها على الطوابع”.
**عشقت جمع الطوابع منذ الصغر**
خدمات البريد في عدن
“وأما بخصوص كيف غرس في نفسي منذ الصغر حب جمع الطوابع البريدية، فإن عشقي للسفر وركوب البحر والانطلاق إلى عالم جديد يحتوي على كل مثير وكل غريب وطريف دفعني إلى البحث عن وسيلة تعوض عدم قدرتي على السفر الحقيقي إلى آفاق العالم، فوقع بصري مصادفة على أحد المحلات في مدينة التواهي التي كانت مركزًا تجاريًا عالميًا وتموج بالحياة التجارية، وكانت جذوة من النشاط والحركة التي لا تتوقف أبدًا، فحينها رأيت ولأول مرة مجموعة من طوابع البريد في ذلك المحل، ولفت نظري إلى هذه المجموعة من الطوابع أنها كانت جديدة وتكاد تلمع وتبرق، والظاهر أن أوراقها كانت من النوع المصقول ورسمت عليها بعض الحيوانات والسفن الكبيرة وصورة ملك بريطانيا وصورة الملكة اليزابيث الثانية وهي في قمة شبابها، فمن لحظتها أحببت جمع الطوابع، وشجعني عدد من أساتذة المدرسة الإبتدائية على تنمية هوايتي في جمع الطوابع وحفظها حفظًا سليمًا حتى تبقى جديدة، وقد نبهني أحد الأساتذة والظاهر أنه كان لديه فكرة واسعة عن طوابع البريد، فقال لي: إذا أردت أن تحتفظ بقيمة الطوابع فعليك أن تكون رقيقًا في لمسها وأن تتجنب خدش أطراف الطابع البريدي، وبذلك تحتفظ بقيمته الفنية، ومن ثم وجدت من بعض المدرسين التشجيع الكبير لتنمية هوايتي منذ سن التاسعة من العمر، وأتذكر أنه كان هناك بعض من زملائي في المدرسة لديهم مواهب وهوايات متنوعة، ولكنها لم تصقل”.
**تراث الشعوب وثقافتهم**
ويواصل توفيق الحديث: “بدأت في جمع الطوابع من خلال المراسلة إلى الأصدقاء في البلاد العربية وخاصة مصر والعراق وسوريا، بالإضافة إلى جمع العملات والبطاقات المصور عليها بعض الآثار والمعالم المشهورة في مختلف البلدان، فأقول إن الطابع البريدي مثله مثل كتاب التاريخ يمثل وثيقة تاريخية هامة لأي بلد، وأيضًا الطوابع تمثل تراثًا ثقافيًا هامًا لشعب من الشعوب، فنحن إذا نظرنا في طابع ما من طوابع شرق آسيا (الهند، ماليزيا، بورما) ستلفت نظرنا العادات والتقاليد المتنوعة التي رسمت على الطوابع، أو بعبارة أخرى التراث الثقافي النابع من بيئة حياتهم الأصلية، هذا من ناحية التراث الثقافي أو الحضاري، أما من ناحية التراث السياسي ـ إذا صح التعبير ـ فإننا نلاحظ في الطوابع القديمة التي تنتمي إلى فترة الأربعينات من بينها طوابع دولة فلسطين قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1948م ومملكة شرق الأردن وطوابع الدول قبل استقلالها من مختلف القارات في العالم، وبعضها يضم دولة واحدة إلى أربع دول في طابع واحد عندما كان الاحتلال وخاصة من بريطانيا مثل طوابع تضم أوغندا، كينيا، زنجبار، تنزانيا، هذه في قارة أفريقيا، أما في شرق آسيا تحتوي سنغافورة والملايا (ماليزيا)، وأيضا طوابع عليها الاسم القديم مثل سيلان صارت الآن سيرلانكا، وفي أوروبا الغربية كانت تسمى سويسرا وقديمًا اسم هلفيتيا، ودولة الإمارات العربية المتحدة كانت كل إمارة لها طابع بريدي خاص”.
**آفاق واسعة من المعلومات**
“إذًا فهواية جمع الطوابع تفتح آفاقًا واسعة من المعلومات المتنوعة والمعارف عن تلك البلدان التي لا تعرف أسماؤها من قبل، ومن خلال الطوابع نتعرف على العملات لكل بلد وأنواع الطيور والحيوانات والأسماك التي تعيش في حياة تلك البلدان، ونتعرف على أهم الصناعات وأبرز المعالم الأثرية والتاريخية، وعلى ثقافتها الإنسانية وأبرز مفكريها وعلمائها ومثقفيها، وفضلاً عن ذلك تفرد الكثير من الطوابع أنواعًا من الألعاب الرياضية، فطوابع البريد هي عبارة عن مفاتيح يستطيع الباحث الناشئ من خلاله التعرف على تاريخ البلد الذي يدرسه من عدة جوانب.
معارض طوابع البريد التي تقام في عدد من الدول الأوروبية المتقدمة مثل فرنسا التي أقامت مؤخرًا معرضًا عالميًا للطوابع البريدية، والتي شارك فيها عدد غير قليل من دول العالم على سبيل المثال، هولندا، ألمانيا، بلجيكا، إيطاليا، وغيرها إن دلت تلك المعارض على شيء فإنما تدل على أهمية الطوابع البريدية في دراسة وجوه عديدة من حياة شعوب العالم من حيث عاداتها وتقاليدها وأعرافها وثقافتها الإنسانية”.
**جمعت أكثر من (1000) طابع**
ويواصل محدثنا الأستاذ توفيق عبده حسين فيقول: “لدي أكثر من ألف طابع من الطوابع المتنوعة، وأغلبها تعود إلى فترة الأربعينات والخمسينات والستينات، ولا أبالغ إن قلت إن الطوابع البريدية صارت عالمي الخاص فهي تشعرني بالسعادة البالغة، تهز مشاعري وتحلق بي في أجواء مثيرة عندما أقلب صفحات سجل الطوابع التي أحتفظ بها، وخصوصًا القديمة التي كانت ومازالت سجلًا هامًا تدون فيه اسم البلدان وملوكها ورؤسائها وأمرائها وحكامها”.
* الأام