سأتحدث في رسالتي هذه إلى القائد السياسي علي سالم البيض بعيدا عن الألقاب والمناصب التي سبقت وتسبق اسمه فما يهمني في رسالتي هذه هو علي سالم البيض الإنسان وليست مكانته ولا ألقابه ولا المناصب التي شغلها فتلك ليست سوى أعراض عابرة بالنسبة لجوهر الإنسان أي إنسان.
ومن هنا فإنني لست بحاجة إلى استعراض الأدوار والمحطات التاريخية والمواقع القيادية التي كان للأخ علي سالم البيض حضورا مؤثرا وأحيانا حاسما ومقررا فيها فتلك معروفة للجميع وما ليس معروفا ليس ذا أهمية في ما نحن بصدده، إذ إن ما يهمنا اليوم هو المسئولية التاريخية التي يتحملها الرجل في هذه اللحظة الحاسمة والمفصلية من تاريخ الجنوب.
ما يزال معظم نشطاء الحراك السلمي (أو لنقل الكثير منهم) ينظرون إلى الأخ على البيض باعتباره القائد الأول الثورة السلمية الجنوبية التي تنشد فك الارتباط بصنعاء واستعادة الدولة الجنوبية التي كان الأخ علي البيض من وقع على بيان اندماجها مع الجمهورية العربية اليمنية يوم الثلاثين من نوفمبر 1989م وواصل كل الخطوات حتى تنفيذ هذا الاتفاق في 22 مايو 1990م، وهذه النظرة بقدر ما تحمل من التقدير والتبجيل فإنها بنفس القدر تعني الكثير من المسؤوليات والتحديات والمهمات التي ينتظر من الرجل القيام بها، وفي اللحظات الحاسمة والمفصلية من تاريخ الثورات والأمم تصبح الخطابات وبيانات الإدانة والمناشدة وحتى التصريحات النارية ومخاطبات المحيطين الإقليمي والعالمي مسألة بروتوكولية وشكلية قليلة القيمة وعديمة الجدوى، ما لم تصحبها مبادرات خلاقة وأفكار مبتكرة وبناءة ومتجددة تستجيب لتطلعات الناس وتعبر عن استيعاب اللحظة التاريخية وما تحمله من فرص وما تخفيه من مخاطر.
وأتصور بجزم أن الأخ البيض يدرك جيدا كم هي حاسمة ومفصلية وخطيرة ودقيقة اللحظة التاريخية التي تعيشها الثورة الجنوبية الهادفة إلى استعادة الجنوب حقه، الذي اغتصب منه اغتصابا بالحرب والغزو ، بعد أن تمكن الغزاة من الإمساك بأدوات صناعة النتيجة التي آلت إليها الحرب العدوانية على الجنوب في العام 1994م.
اللحظة التاريخية الراهنة ليست بحاجة إلى خطابات ولا إشادات بدور مناضلي الثورة السلمية الذي قدموا من الفدائية والاستبسال ما لا نظير له، وهي كذلك ليست بحاجة إلى إصدار بيانات الشجب والتنديد بما يتعرض له الجنوب ولا مناشدة المجتمع الدولي بنصرة قضية الجنوب، فهذا يمكن أن تقوم له الجماعات الحقوقية ومنظمات المناصرة والملتقيات والمراكز المتخصصة.
وكان كاتب هذه السطور قد قال مرارا، إن المجتمع الدولي لا ينصر أصحاب الحق لمجرد أنهم أصحاب حق، وهو لا يتصدق على المظلومين ليحسن إليهم لمجرد أنهم مظلومين، بل إنه يتعامل مع أصحاب الحق الأقوياء الذين يصنعون تغييرات حاسمة في ميزان القوى على الأرض لصالح قضاياهم، على النحو الذي يمكنهم من الإمساك بأدوات قوية للضغط على خصومهم لانتزاع الحقوق، فالمناشدة لا تعيد حقا والتوسل لا ينصف مظلوما والحرية والكرامة لا تؤخذان بالاستجداء والشكوى، بل تنتزعان انتزاعا بقوة الموقف وحكمة صناعة القرار وإتقان التعامل مع المعطيات الداخلية والخارجية.
لا يطلب الجنوبيون من الأخ البيض أي مطالب تعجيزية، ولن أتحدث عن المطالب التعجيزية التي أقصدها والتي قد يعتبرها غيري مطالب مشروعة أو واجبات أخلاقية وسياسية على الأخ البيض، بل ما يطلبه الجنوبيون هو أمر واحد، مبادرة جدية يدعو فيها البيض كل الفرقاء من القوى السياسية الجنوبية القديمة والمخضرمة والجديدة للتلاقي على كلمةٍ سواءٍ من أجل الجنوب، والكلمة السواء هي ما يسميها المعاصرون “القواسم المشتركة” ولا أتصور أن هناك ثورة حظيت بقاسم مشترك أجمع عليه كل الفرقاء السياسيين مثل الثورة الجنوبية، وأقصد هنا حق الشعب الجنوبي في تقرير مصيره بيده، وبإرادته الحرة واستعادة الدولة التي صادرتها الوحدة المرتجلة ودمرتها الحرب البغيضة.
لا يجوز أن نعفي الأخ البيض الذي يقدم نفسه على إنه الرئيس الجنوبي الشرعي من دعوة كل القوى والعمل معها بصبر ومثابرة وطول نفس وبدائل متعددة قابلة للتعاطي والتطبيق كل ذلك من أجل توحيد الصف الجنوبي في كيان تحالفي عريض لا يلغي أحد ولا يصادر تاريخ أحد ولا يمنع أحد من الاستقلالية لكنه يوحد الجميع حول الهدف الرئيسي الذي ناضلت من أجله الجماهير وقواها الخيرة منذ العام 1994م رافضة نتائج الحرب وأعلنت في سبيله ثورتها السلمية منذ العام 2007م
عزيزي الأستاذ علي سالم البيض!
لا تنتظر مبادرة من أحد لأن القائد المبتكر والمحنك والمبدع هو من يبادر ولا يبادر له الآخرون، ولا تنتظر تنازلات من أحد لأن القائد المسئول والحريص والمخلص هو من يتنازل من أجل القضية الكبرى، ولا تنتظر الصدقة من المجتمع الدولي أو الوسط الإقليمي لأن هؤلاء ليسوا فاعلي خير يتصدقون على المحتاج وليسوا هيئة قضائية عادلة ليعيدوا للمظلوم حقوقه، بل بادر وادع زملاءك ورفاق قضيتك، وقدم لهم ما لديك من أفكار تجمعهم كلهم حولك، وإذا ما تعثرت هذه المبادرة قدم غيرها ثانية وثالثة ورابعة حتى تتوصل معهم إلى ما يجمع الناس حول القضية الكبرى التي ضحى من أجلها خيرة شباب الجنوب بأرواحهم.
إنك لست قائدا عسكريا حتى يمتثل لك الآخرون بلا مناقشة، ناهيك عن أنك لم تقل لهم شيئا يمتثلون له أو يناقشونه، ولست نبيا مرسلا تقدم لهم ما ينزَّل عليك فينصاعون له، ولا أنت شيخ قبيلة حتى يطيعونك وأنت واقف تتفرج لا تقدم ولا تؤخر، أنت قائد سياسي يفترض أنه يحمل في حناياه تطلعات، خمسة مليون جنوبي يتعطشون إلى اليوم الذي ينتزعون فيه حريتهم المصادرة وحقوقهم المنهوبة وثرواتهم المسلوبة وأمنهم المفقود ودولتهم المغتصبة، ونحن لا نريد لقادتنا التاريخيين أن يتحولوا إلى عبء ثقيل على حركة الجماهير الجياشة والمتدفقة حماسا وطموحا وتلطعا إلى الغد الأفضل بل ننتظر منهم كل يوم الجديد والجديد من الفكر السياسي المنسجم مع تطلعات الناس والمتناغم مع حركتها المملوءة بالحيوية والاستعداد للتضحية والإيمان بعدالة قضيتها، فهل أنتم فاعلون!؟!؟
برقيات:
* إذا ما صحت الأنباء عن أن الأستاذ عبد الرحمن الجفري قد رمى علم الجنوب بيديه، تعبيرا عن رفضه لهذا العلم فهذا يعني أن عودته تحمل من عوامل التفريق والتمزيق أكثر مما تحمل من عوامل التجميع والتوحيد!
* يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله:
قنعتُ بالـقوتِ من زماني وَصنتُ نَفسِي عَنِ الهَوانِ
خَوفاً مِنَ النَّاسِ أنْ يَقولُوا فـــــضْلُ فلانٍ عَلَى فلاَنِ
مَنْ كُنـْتُ عَنْ مَالِهِ غَنِيّاً فلا أبالي إذا جـــــــــــفاني
وَمَنْ رَآنِي بِعــــــــينِ تمٍّ رأيتهُ كاملَ المـــــــــــعاني