حول ثنائية الوحدة والانفصال
د.عيدروس نصر النقيب
يستمر الجدل حول ثنائية الوحدة والانفصال في اليمن كواحدة من القضايا الأكثر سخونة وتعقيدا في عملية التحول السياسي الذي تشهده البلاد، كما تبدو هذه القضية كأكبر التحديات في إطار عملية الانتقال الذي يفترض أن تحدثها أو تكون قد أحدثتها الثورة الشبابية السلمية في العام 2011م وقبلها الحراك السلمي الجنوبي المندلع في العام 2007 كأول ثورة سلمية عربية.
هذه الإشكالية لا تأتي من الفراغ ولا نتيجة لعمل فوضوي يقوم به بعض هواة الشغب والمناكفة ولكنها تنبع من حقيقة لم يعد بمقدور أحد إنكارها وهي فشل المشروع الوحدوي الذي جرى محاولة الوصول إليه في العام 1990م، وما تلاه من أزمات سياسية متتالية انتهت بحرب أحرقت الأخضر واليابس وأهم ما أحرقته هو المشروع الوحدوي نفسه الذي تحول إلى مجرد سلم يمر عبره الناهبون واللصوص والنصابون والمجرمون والفاسدون لتحقيق مآربهم المتعددة، وبنتيجة لهذا تحول أحد طرفي المشروع الوحدوي (الجنوب) إلى غنيمة حرب، ليس بيد الطرف الآخر (الشمال) ولكن بيد قوى النفوذ والتسلط والنهب التي كانت قد أكملت نهبها للشمال منذ سنين خلت.
من سوء حظ الحياة السياسية في اليمن أن الكثير من قاداتها يتفاعلون مع تطورات الأحداث ببطء يتفوق على بطء السلحفاة في حركتها، بينما تسير الأحداث والمتغيرات بسرعة الومضة الضاغطة على زر اللابتوب أو رسالة الموبايل،. . . هذا الترهل والبطء في تفاعل الساسة مع تغيرات الأحداث يؤدي إلى كوارث كبيرة لأن هؤلاء الساسة المترهلين هم من يصنع القرار السياسي، وهم بهذا التباطؤ وضعف تفاعلهم مع المتغيرات المتسارعة، يعيقون حركة التاريخ ويثبطون من إمكانية الاستجابة السريعة لمتطلبات التغيير بما يخدم مصالح البلد ويقلل من الخسائر الكبيرة التي يتسبب بها بطء اتخاذ القرار المناسب وفي الوقت المناسب.
في العام 2007م عندما اندلعت ثورة الحراك السلمي الجنوبي كانت كل محاولة داخل البرلمان اليمني لطرح مطالب المتقاعدين العسكريين تواجه بالتجاهل واللامبالاة وأحيانا بالتهجم واتهام الأغلبية وقيادة البرلمان كل من يتبنى هذه القضية بالانفصالية, اعتقادا منهم (أي جماعة الأإلبية) بأن القبضة الأمنية وحدها تكفي لسحق أصحاب المطالب المشروعة، وفي أحسن الأحوال كان مطهر المصري يأتي ليقول لنا أن سبعمائة من الخارجين عن القانون يرفعون أعلام الانفصال، . . .ليته شاهد احتفال الثلاثين من نوفمبر 2012 في المنصورة وفي حضرموت وشبوة وردفان وغيرها ليرى كم صار هؤلاء السبعمائة.
من بين علامات التبلد السياسي أن يعمد بعض الساسة والإعلاميين إلى إلصاق تهمة الانفصالية بكل من يطالب بإزالة المظالم الكبرى التي ألحقتها الحرب بالجنوب والجنوبيين، في محاولة لاستبقاء نتائج حرب 1994م وتخليدها كحقائق تاريخية غير قابلة للتغيير، وترويع دعاة الحق بهذه التهمة اعتقادا بأن الخوف منها سيرغم أصحاب الحقوق على التنازل عن حقوقهم، وهم بذلك لا يفعلون ما يفعلون تجاهلا لما لهذه النتائج من آثار تدميرية ولكن لأنهم مضطرون إلى الدفاع عن الغنائم المهولة التي حققوها بفعل هذه الحرب وهنا لا يجدون إلا فزاعة الانفصال لترويع كل من يحاول التعرض لمنكرات تلك الحرب وما ترتب عليها من جرائم.
ومن سوء حظ هؤلاء أن الادعاء بالوحدوية لم يعد مصدر فخر لدى الجنوبيين وربما لدى غالبية اليمنيين، كما إن الاتهام بالانفصال والانفصالية لم يعد مخيفا أو مسببا للشعور بالغضب، بل أن الكثير من المواطنين الجنوبيين يعتبر إلصاق صفة الوحدوية باسمه تهمة مهينة، واتهامه بالانفصالية شرف يعتز به، ومنشأ هذا النوع من الشعور هو تلك الصورة القبيحة التي ارتبطت بالوحدة وهي منها براء، والمقصود هنا ما تصرف به أدعياء الدفاع عن الوحدة من تكريس لسياسات النهب والاستيلاء والعشوائية والعنجهية والبطش والتعالي والنصب والاحتيال ونشر الرشوة وما توصل إليه الحال من انفلات أمني وقيام الأجهزة الأمنية بقتل المواطنين الأبرياء، مع ضعف شديد في الكفاءة عندما يتعلق الأمر بأداء الواجبات الأمنية والتنفيذية من قبل المدعين بأنهم وحدويون.
وبغباء شديد ينبري بعض الإعلاميين في رفع سوط الوحدوية في وجه كل من ينادي بالحق ويتصدى للباطل، فهم الوحدويون الوحيدون حتى وإن كانوا من المدافعين عن اللصوص وناهبي الأراضي وسالبي الحقوق وقتلة الأبرياء، لكن من يطالب بالحق انفصالي لمجرد إنه لم يكن من أنصار أبطال حرب 1994م، رغم أن زعماء هذه الحرب قد اعترفوا بأنها كانت حرب احتلال وبنتيجتها عومل الجنوب معاملة المستعمرات.
أحد الناشطين في الحراك السلمي قال معلقا على بعض المتبجحين بالوحدة والوحدوية : إذا كانت الوحدة تعني الظلم والسلب والنهب والقمع والتنكيل والبطش وترقية اللصوص ومحاربة الشرفاء، وكان الانفصال يعني الانحياز للحق ورفض الظلم وإقامة العدل فإنني انفصالي حتى العظم، لكن أدعياء الوحدة هم من لوث صورتها وأبهت رونقها وأطفأ وهجها في كل نفوس اليمنيين حتى لم يعد منها إلا تلك السياسات المعوجة التي لا تعبر إلا عن مصالح الفاسدين ولصوص المال العام، أما وحدة المواطنين البسطاء الحالمين بالعدل والحق والكرامة والحرية والمواطنة المتساوية فهي ما تزال غائبة، وما نزال بانتظارها.
خلاصة القول:
* ليست الوحدة هي ضم الأرض إلى الأرض ودمج الناس مع بعضهم، ناهيك عن أن تكون استيلاء مجموعة من النهابين والمغتصبين على كل المقدرات، بل إنها ينبغي أن تكون تكريسا للعدل والمساواة في المواطنة واحترام لكرامة وآدمية الناس أينما كانوا والارتقاء بمكانة الإنسان اليمني بين الأمم لا الانحدار به إلى أدنى مستويات المواطنة، كما إن الانفصال ليس مجرد تقسيم الأرض أو الناس، فاليمنيون كانوا موحدين على مر عدة عقود رغم انشطار الأرض وتخاصم الأنظمة، لكن الانفصال هو نهج التمزيق والتفكيك وتوزيع المواطنة إلى مستويات وإطلاق أيادي اللصوص والعابثين ليلتهموا حقوق الغالبية من الناس، وعندما يمارس ذلك على أساس شطري فإنه انفصال بكل المعني، حتى وإن تغنى أصحابه بالوحدة والوحدوية، وادعوا الوطنية والثورية .
* قال الشاعر العربي الكبير زكي مبارك:
نــــــــناديهم فلا نلقى جواباً نداء الــــــــحر ليس له مجيبُ
ثعالب في سياســـيتهم مواتٌ وموت الثـــــعلبان له ضروبُ
تجلّى بعضـــــهم أو جلنزوهُ فأمسى وهو من جهلٍ طروبُ
إذا فرحــوا بنوم الدهر عنهم فيوم ذهابـــــــــــهم يومٌ قريبُ
صباحُ العيد صبح غدٍ سلامٌ على عـــــــيدٍ تصوم به القلوبُ