القائد الذي تتجدد الاحتفالات بدوره في إخراج فرنسا من نكبة الاحتلال الى التحرير فالاستقلال بالتآلف مع الدول المنتصرة على هتلر عام 1945 هو الجنرال شارل ديغول، طبعاً، الرئيس الذي استقبله الفرنسيون بطلاً تاريخياً لدى عودته من لندن، ودخوله باريس مظفراً، وهو الذي أصّر على تمكين فرنسا من القيام بدورها الداخلي والأوروبي والعالمي شرقاً وغرباً واثقاً من كل بادرة كان يتخذها داخل الأمم المتحدة أو خارجها، وبحيث أنه أخرج فرنسا من الحلف الأطلسي من دون معاداة العضو الأقوى فيه، الولايات المتحدة الأميركية، حريصاً، مثلاً، على انتقاد السياسة الأميركية العسكرية في فيتنام، وحريصاً، كذلك، على أن تكون فرنسا وهي العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، ذات مبادرة تاريخية رائدة في الاعتراف بالصين الشعبية قوة ونظاماً ودولة، قبل أي دولة عربية كبرى، فقامت العلاقات الودية بين باريس وبكين منذ اكثر من ستين عاماً وهي حقيقة عبّرت عنها الصين مجدداً عندما بلغها أن حديقة الجنرال ديغول، حيث يقوم تمثاله، والرموز المرفقة به، في بلدة كولومبي- لي دوزغليز، بحاجة الى الترميم، فكلّفت سفيرها في العاصمة الفرنسية بالمسارعة في تقديم تبرّع بخمسين ألف يورو لتوفير الصيانة المطلوبة، قبل اهتمام أي جهة أخرى بهذا الواجب.
أما لبنان، الضعيف بالإمكانات بالنسبة الى الصين، ولا سيما في الأوقات الراهنة، فقد تبرّع بألف شتلة أرز لحديقة ديغول، اعترافاً منه بما كان الزعيم الفرنسي العالمي يكنّه من مشاعر حيال لبنان لاسيما أنه قد عاش فيه سنتين بين 1929 و1931 عندما كان رائداً في الجيش الفرنسي- كومندان- وانتدب للخدمة في بيروت، حيث قام بنشاطات فكرية وأدبية الى جانب واجبه العسكري وبقيت أفكاره وآراؤه تتردد مع السنين، الى ان تم الاحتفال في الرابع والعشرين من كانون الثاني (يناير)، بيوم دراسي شامل، عن ديغول ولبنان- وعن اللبنانيين وديغول، بتنظيم شامل وناجح، أنجزته مؤسسة شارل ديغول ومعها جمعية «فرانكوفونيا- لبنان» التي ترأسها السيدة كلوتيلد دوفوشيكور. وسبق لهذه الجمعية ومقرها قرب باريس في «نويي- سيرسين» أن أدت خدمات واسعة لطلاب لبنان في مجالات التعاون والتبادل مع طلاب فرنسا، ثم جاء اليوم الطويل عن شارل ديغول في مجلس الشيوخ الفرنسي حافلاً بالإسهامات اللبنانية والفرنسية، التي راوحت بين نظرة ديغول الى لبنان في مراحل نشوء الجمهورية اللبنانية منذ عشرينات القرن الماضي، ومواقفه المعروفة منه، سواء في عهد الاستقلال مع الرئيس الشيخ بشارة خليل الخوري، أو مع الجنرال فؤاد شهاب الذي عرفه عن قرب أثناء دراسته بفرنسا، وظلت العلاقات الطيبة تجمع ما بينهما، وأيضاً مع الرئيس شارل حلو، الذي قام بزيارة دولة عام 1965.
والأسماء التي تناوبت على العلاقات المميزة بين فرنسا ولبنان، وتحديداً بين الجنرال ولبنان، كانت - مع حفظ الألقاب - أسماء جان بيار بيل، رئيس مجلس الشيوخ وبرعايته، وعضو المجلس جان جرمان رئيس المجموعة البرلمانية فرنسا- لبنان، وجاك توبون الوزير السابق عضو «مؤسسة شارل ديغول» وغادي الخوري القائم بأعمال السفارة اللبنانية في باريس، وخليل كرم السفير، رئيس البعثة اللبنانية لدى اليونيسكو، وكلوتيلد دوفوشيكور، رئيسة فرنكوفونيا لبنان.
وعلى مدى الحلقات التي انتظم بها اليوم الطويل تحدث البروفسور جيل لوبيغر، المؤرخ ورئيس المجلس العالمي في مؤسسة شارل ديغول، وجيرار خوري، ثم «ديغول في المشرق» لإيزابيل داسك، ثم مداخلة الأب سليم دكاش رئيس جامعة القديس يوسف في بيروت حول خطاب ديغول في الجامعة. وتوالت المداخلات من قبل جيروم بوكيه ورينه ماربو مع تعقيب عام لجيرار لارشيه رئيس رابطة أصدقاء ديغول في مجلس الشيوخ ومداخلة للنائب السابق سمير فرنجية. وفي برنامج بعد الظهر من اليوم نفسه، أدار الجلسة جان- مارك فيفري وتحدث فيها ستيفان مالسان عن علاقات ديغول وفؤاد شهاب إضافة الى كريم بيطار الذي تحدث عن الصراع العربي - الاسرائيلي في لبنان والاعتداء على مطار بيروت وتحطيم الطائرات المدنية من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي.
ثم توالى على ادارة الجلسات جوزف مايلا، ثم كلمة لميشال اده، ألقتها بالنيابة عنه كريمته ايزابيل الحلو، ثم كلمة الشيخ ميشال بشارة الخوري وذكريات الاعتـقال والاستقلال عام 1943، مع ما رافقها من حوار ومراسلات بين الجنرال والشيخ الرئيس الاستقلالي الأول بشارة خليل الخوري. والحلقة الأخيرة تناولت بإدارة كارول داغر، قيم الفرانكوفونية في لبنان والإرث الفرنسي حيث تحدث صلاح ستيتية والأب سليم دكاش وإيف أوبن وأوريان لوشوفاليه والكسندر نجار ومنى مكي.
أما ديغول العربي، الذي كان عليه الاهتمام بإنهاء الاستعمار أو الانتداب بالنسبة للدول الخارجية، لا سيما العربية منها، فقد كان واضحاً أن همّه الأول كان إنهاء حرب الجزائر والاعتراف باستقلالها تمهيداً لإقامة علاقات سليمة جديدة معها، وتأتي بعدها قضية تونس أو موريتانيا او سورية ولبنان اللذين استقلا قبل وصوله الى الحكم في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1958 ورئاسته الجمهورية الخامسة حتى العام 1969 وانصرافه الى استكمال كتابة مذكراته حتى وفاته عام 1970.
وعلى صعيد المشرق، تميزت سياسة ديغول الخارجية بخطين واضحين: الأول طبيعي متجانس ومستقر، رسمه مع الملك فيصل بن عبدالعزيز في بداية الستينات عندما كان لا يزال ولياً للعهد، وقبل أن يتسلم مقاليد الملك والحكم عام 1964، فجاء التعاون الودّي الصادق بين فرنسا والمملكة العربية السعودية، بصورة نقية لحسن العلاقات الطيبة. وتنامت تلك السياسة الخارجية المتبادلة، بثقة ونجاح حتى اليوم على أكثر من صعيد معنوي وثقافي وصناعي وتجاري وعلمي تكنولوجي.
وهكذا أدى اللقاء بين فيصل وديغول الى أفضل النتائج بينما ظلت العلاقات بين فرنسا ومصر متعثّرة لسببين الأول: تأييد الرئيس جمال عبدالناصر للثورة الجزائرية بالرجال والسلاح، علاوة على تأييده حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا، خصوصاً بعدما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي الفرنسي - البريطاني - الإسرائيلي بسبب تأميم قناة السويس عام 1956، ولم يكن الوقت ملائماً لتصفية الخلافات بين القاهرة وباريس حول مجمل القضايا المعقدة بينهما، لكن التناقض في بعض وجوه السياسة الخارجية لم يمنع التزام أيّ من القيادتين بالمفاهيم الحضارية والثقافية فكانت الاتصالات قائمة على الدوام بين وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة، ووزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو، فحافظ البلدان على متابعة البرامج المتعددة في التنقيب عن الآثار، وتوسيعها، طوال سنوات .
وانتهى حكم ديغول عام 1969 وحكم عبدالناصر عام 1970 من دون أن يجتمعا على امتداد سنوات حركة عدم الانحياز، او تحقيق الوحدة العربية بين مصر وسورية عام 1958، وهي نفسها التحركات الدولية التي اوقعت الانقسامات والخلافات بين دمشق والقاهرة فسقطت الوحدة.
كان ديغول في أفكاره السياسية ذا نظرة شاملة إلى الأوضاع الدولية تمكن فيها من استعجال عودة فرنسا إلى دورها الطبيعي في إقامة أفضل العلاقات مع شعوب العالم، ومع العرب دعماً لحقوقهم وإصراراً على تحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط من خلال دولتين فلسطينية وإسرائيلية، ينتهي مع إعلانهما منطق الاحتلال الإسرائيلي والتوسع العسكري من خلال المستوطنات.