تصدرت حكاية “المكاسب الوطنية” قاموس حزب المؤتمر الشعبي العام وبعض أنصاره في خضم الحديث عن مخرجات الحوار الوطني وفي المقدمة منها قضية شكل الدولة والقضية الجنوبية وما تقدم من أفكار تنهي أزمنة الظلم والهيمنة والنهب وتستأصل نهج الحروب وتعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة وتحمي اليمن من مخاطر الاستبداد والطغيان، كما من مخاطر التفكك والتشظي التي تؤدي إليها سلسلة السياسات الصدئة التي اتبعت في اليمن على مدى عقود.
يكرر قادة المؤتمر الشعبي العام ومعهم طابور الكتبة والمداحين أن المؤتمر لن يتنازل عن “مصالح الوطن”، ولا يفرط بـ”المكاسب الوطنية”، ويهددوننا بعرقنة اليمن ومقاطعة مؤتمر الحوار إذا ما تعرضت هذه “المكاسب الوطنية” للمساس.
هم لا يتحدثون عن المحطات النووية ولا عن مراكز البحوث الفضائية التي أنجزوها للشعب اليمني خلال ثلث قرن من حكمهم للبلد، كما لا يقصدون مجمعات الحديد والصلب ومؤسسات الصناعات الثقيلة التي وفرت فرص العمل لملايين العاطلين عن العمل، كما لا يقصدون شبكة السكك الحديدية التي وفرت التنقل الآمن والرخيص بين مدن ومحافظات البلد والتي بنوها لنا وهم يستخرجون ثروات الوطن ويستلمون القروض ويحصدون العائدات الوطنية على مدى أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما.
هذه المصالح الوطنية وغيرها مما أنجزته قيادتهم لهذا الشعب يمكن أن تكون محل نقاش إذا اقتضت المسألة أي مساومة سياسية، ولا بأس أن يتراجع اليمني استخدام الطاقة النويية ويعود إلى زمن الكهرباء التقليدية فهي متوفرة ويمكن استخدام الفائض الذي يصدر لسد الحاجة الضرورية كما يمكنه أن يستغني عن استخدام السكة الحديد ويعود إلى زمن الطائرات والسيارات فالطرق معبدة والدروب آمنة ويستطيع المواطن أن يسافر طولا وعرضا دون أن يعترض طريقه أحد بفضل الأمن الذي رسخوه لنا طيلة حكمهم.
المكاسب الوطنية التي لا يرغبون في التنازل عنها هي غنائم الحروب الطويلة التي خاضوها ضد الشعب اليمني على مدى العقود الطويلة التي ربضوا فيها على رقاب شعبنا ولم يدعوا له فرصة أخذ النفس إلا وكانوا فيها حاضريتن عند بوابة فمه .
المكاسب التي لا يريدون التنازل عنها هي جريمة الحصانة التي اغتصبوها من الشعب اليمني والتي يحمون أنفسهم بها من كل جرائمهم المتواصلة التي ارتكبوها بحق الوطن والتاريخ والجغرافيا طوال فترة حكمهم.
وعلى وجه التحديد هم لن يتنازلوا عن مكسب مركب وكبير هو نهب الجنوب الذي مارسوه على مدى عقدين من الزمن ـ حتى تحولوا بين عشية وضحاها من مجرد لصوص يتاجرون بالممنوعات ويهربونها سرا عبر الموانئ الخفية التي اصطنعوها خفية وبعيدا عن أعين الناس وتحولوا إلى مليارديرات يستثمرون أموالهم في بنوك أوروبا وآسيا وأفريقيا وفي أي مكان في العالم إلا اليمن.
هذه “المكاسب الوطنية” هي بالذات ما يرفضون التفريط بها أو التنازل عنه، لأن أي تنازل عنها سيحولهم من ناهبين ومغتصبين ومستخدمين سيئين للسلطة وصلاحياتها إلى مجرد مواطنين عاديين مثل بقية الثلاثة وعشرين مليون يمني ممن يبحثون ليلا ونهارا عن لقمة عيشهم وكبسولة الدواء لمعالجة مرضاهم بجهودهم وعرقهم وطاقاتهم البدنية والذهنية في حين يتحكم هؤلاء على كل موارد الوطن ويتصرفون بها كما يتصرف الأبناء بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم.
هم يرفضون الدولة الاتحادية لأنها ستوقف عنهم الحنفية التي تملأ أوعيتهم ذهبا وبلورا وتدر عليهم المليارات التي لم يحققها رجال الأعمال الشرفاء في كثير ممن بلدان العالم على مدى مئات السنين، . . . . . هم يرفضون الدولة الاتحادية ليس حفاظا على اليمن من التمزق كما يقولون فهم قد مزقوا اليمن أشد تمزيقا بسياساتهم وممارساتهم القائمة على الظلم والسلب والنهب والاغتصاب، لكنهم يرفضون الدولة الاتحادية لأنها تعني إعادة الحق إلى أصحابه من خلال تمكين الأقاليم والمحافظات من أن تحكم نفسها بنفسها، وأن تنال حصتها العادلة من العائدات الوطنية الكثيرة ولأنها ستوقف العبث بالثروات الوطنية النفطية والغازية والبترولية والسمكية والزراعية من قبل شلة طفيلية متنفذة لم تقدم لليمن إلا الويلات والحروب والبطش وتجارة الأسلحة وأخذت من اليمن واليمنيين كل شيء.
دكاترة لكن جهلاء
أطرف وربما أغبى ما يمكن قراءته هذه الأيام هو ما يكتبه العديد من أدعياء الحرص على “الوحدة اليمنية”، من خلال شيطنة وتجريم أي دعوة للفيدرالية (التي هي المعنى اللاتيني للإتحاد، أو الاتحادية أو الوحدة) وتكفير كل من يعلن تأييدها أو المطالبة بها وتصويره على إنه خارج عن الوطنية ولديه أطماع في التسلط والهيمنة، واتهامه يالرغبة في تمزيق الوطن وتفكيكه وتحويله إلى مجموعة من الشظايا دون أن يقولوا لنا ماذا يستهدف هؤلاء الأشقياء المتآمرون أعداء الله والوطن من خلال هذه المؤامرة الشيطانية.
آخر ما قرأت لأحد هؤلاء الجهابذة مقالة صارخة مشحونة بالألم والمرارة على مصير اليمن بعد أن تصير فيدرالية، ومع إنني لا أقرأ كثيرا لهؤلاء الذين لم أتعود أن أرى في كتاباتهم إلا الإشادة بــ”الزعيم الرمز” ومدح إنجازاته، وتسويق المعجزات والمآثر التي حققها للشعب اليمني، لكن عنوان المقالة نفسه وما يحويه من تناقض يبين حجما هائلا من الجهل والغباء وربما الاستغباء خاصة وإن كاتبه يحمل شهادة الدكتوراه كما يقدم نفسه، والمقال المتناقض بعنوان “كيف تجتمع الوحدة والفيدرالية في اليمن . .؟” وعلامة الاستفهام هنا ليست للتساؤل بل للإنكار كما يقول علماء البلاغة. أو كما يبين سياق المقالة ومضمونها.
ليس هذا هو الدكتور الوحيد الذي يتحدث بجهل أو تجاهل في موضوع يفهمه كل من عاش أربع أيام في الإمارات العربية المتحدة أو أمريكا أو حتى في باكستان أو الهند، ناهيك عن ماليزيا وبريطانا وسويسرا وعشرات االبلدان ذات الحكم “الاتحادي”، بل لقد قرأت عشرات المقالات لدكاترة يدعون بأنهم علماء وأساتذة في الجامعات يخيفوننا من الفيدرالية ويقدمونها على إنها مؤامرة استعمارية كل الهدف منها القضاء على منجزات اليمن وحرمانه من النعيم الذي ينعم فيه.
لو كلف هؤلاء أنفسهم قليلا من الجهد لتناولوا أي موسوعة في العلوم السياسية أو فتحو أي موقع إلكتروني يتحدث عن الفيدرالية وسيكتشفون حينها أنهم إنما يحذرون الشعب اليمني من بعبع لا وجود له إلا في أذهانهم وأن البلدان الفيدرالية هي اليوم من أكثر البلدان استقرار ونهوضا وتنمية وأمنا وعدلا، أما التخويف من الانفصال فهم يعلمون أنهم قد أمعنوا في الممارسات الانفصالية إلى الحد الذي جعل كل محافظة من محافظات اليمن نادمة على أنها جزء من بلد ظلت تخضح لحكم تسلطي استبدادي يعتمد على مجموعة من المطبلين والمداحين الجهلة والحمقى وإن كانوا يحملون شهادات الدكتوراه.
برقيات:
* ما تسرب من مقترحات للسيد جمال بن عمر بشأن الأقاليم المقترحة للدوةل الاتحادية في اليمن يمثل نكسة كبيرة في طريق حل هذه المسألة الشائكة، لأنه بدلا من أن يحل مشكلة إقليمين أم خمسة أقاليم؟ راح يدمج تعز مع شبوه ومأرب مع أبين وهي فكرة خرقاء لا يقبل بها إلا مختل عقليا.
* ممثلو الحراك الجنوبي والحزب الاشتراكي اليمني يتحدثون عن حل يزيل أسباب التوتر ويعيد الثقة بين أبناء اليمن لكن هذا المقترح يخلق آلاف الأسباب للاحتكاك والتنازع وتسخين ساحات هي ساخنة مسبقا.
* قال الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ وأخو الجهالةِ بالشــــقاوةِ ينعمُ
ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيِّهِ وخطاب من لا يفهمُ
ومن العداوة ما ينالك نفـــــــعهُ ومن الصداقة ما يضرُّ ويؤلمُ