*- شبوة برس – جسار فاروق مكاوي المحامي
في السياسة، كما في القانون، ليست العبرة بالفعل المجرّد، بل بالسياق الذي يتحرّك فيه، وبالميزان الذي يُحفظ به.
وفي لحظات التحوّل الكبرى، تُقاس الحكمة لا بحدّة الخطاب ولا بسرعة الحركة، بل بالقدرة على صون الشرعية، وحماية التوازن، وإدارة الحق دون التفريط به.
من هذا المنطلق، يصبح من الضروري قراءة المواقف الإقليمية، وعلى رأسها مواقف المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، قراءةً قانونية–سياسية هادئة، غير انفعالية، تُدرك جوهر الدور لا سطح التصريحات، وتفهم طبيعة المرحلة لا عناوينها العابرة.
وفي لحظة إقليمية شديدة الحساسية، حيث تتقاطع مسارات التسوية السياسية مع توازنات أمنية دقيقة، يبرز دور المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بوصفهما ضامنين للمعادلة السياسية لا نقيضين لها، وحارسين لمسار لا يحتمل القفز ولا المغامرة، بل يحتاج إلى ضبط الإيقاع لا كبح الحركة.
إن قراءة متأنية لمواقف الرياض وأبوظبي تكشف بوضوح أن حرصهما لا ينصب على تعطيل حق الحركة لأي طرف محلي فاعل، وفي مقدمتهم المجلس الانتقالي الجنوبي، بل على تنظيم هذه الحركة داخل إطار يحفظ التوازن العام الذي تشكّلت عليه العملية السياسية منذ إعادة ترتيب المشهد بعد عام 2015. فالفارق كبير بين كبح الفعل السياسي، وبين صيانته من الانزلاق إلى صدامات جانبية تستنزف جوهره.
المجلس الانتقالي الجنوبي، بصفته طرفًا محليًا صادقًا ومنظّمًا سياسيًا وقانونيًا، لم يعد حالة عابرة أو طارئة في المشهد، بل أصبح مكوّنًا بنيويًا في معادلة الداخل والإقليم. وهذا ما تدركه دول التحالف العربي جيدًا. فوجوده، وحضوره، وتمثيله للقضية الجنوبية، لم يُكتب بقرار خارجي، بل بإرادة شعبية جنوبية مباشرة، عبّرت عن نفسها في الميدان، وفي السياسة، وفي اصطفاف شعبي مفتوح.
ومن هنا، فإن أي حرص تبديه المملكة العربية السعودية أو دولة الإمارات العربية المتحدة على إدارة خطوات المجلس، لا يمكن تفسيره على أنه إخراج له من المعادلة، بل هو في جوهره تأكيد على مركزيته فيها. فالأطراف الهامشية لا تُدار خطواتها، ولا تُحتوى تحركاتها، ولا يُنسّق معها، بل تُترك لتتآكل. أما المجلس الانتقالي، فالتعامل معه يجري بوصفه عنصر توازن لا عنصر فوضى.
اليوم، بات واضحًا أن أي حرف يُزاح في مسار التسوية السياسية، من أي طرف كان، خارج حسابات التوازن التي تعمل عليها دول التحالف العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وبالتكامل مع الرباعية الدولية، لن يكون مجرد خطأ تكتيكي، بل كسرًا لبنية دقيقة جرى بناؤها على مهل، وبكلفة سياسية وأمنية عالية. وهي بنية، مهما بدت هشة في ظاهرها، إلا أنها ثمرة تضحيات وتسويات معقدة، لا يمكن التفريط بها بخطوة غير محسوبة.
وفي هذا السياق، فإن ما يُنتظر من المجلس الانتقالي الجنوبي، بوصفه الحامل السياسي للقضية الجنوبية، ليس التراجع عن حق الحركة، بل إعادة تشكيل هذا الحق ضمن إطار تكاملي، يحفظ وجوده، ويصون شرعيته، ويعزّز قدرته على التأثير في مآلات التسوية، لا الوقوف على هامشها. فالقضية الجنوبية لم تعد مطلبًا احتجاجيًا، بل مشروعًا سياسيًا وقانونيًا متكاملًا، يتطلب إدارة دقيقة، واشتباكًا ذكيًا مع الواقع الإقليمي والدولي.
إن شرعية المجلس الانتقالي لا تُستمد من اعتراف خارجي، بقدر ما تُكتب يوميًا بإرادة شعب الجنوب الحرة، المباشرة، غير المفوّضة. وهذه الإرادة، حين تلتقي مع إدراك إقليمي عقلاني لدورها وحدودها، تُنتج مسارًا قابلًا للحياة؛ لا صداميًا، ولا تابعًا.
خلاصة القول:
إن حرص السعودية والإمارات على ضبط إيقاع المشهد، وحرص المجلس الانتقالي على تثبيت موقعه، ليسا مسارين متناقضين، بل خطّين يلتقيان عند نقطة واحدة: حماية المعادلة لا كسرها، وبناء التسوية لا نسفها، وتمكين الجنوب من إعادة تشكيل إدارته السياسية والقانونية، لا إعادته إلى هامش التاريخ.
—
المحامي/ جسار فاروق مكاوي
عدن
#جمعة_جنوبية_خالصة