نداء الجنوب الأخير

2025-12-11 15:51

 

باتت عقارب السّاعة تتسارع في كل جغرافيا الجنوب، ولم يعد هناك من مكانة لأية مواقف ضبابية يركن إليها من تبقّى من أبنائه في مشارق الأرض ومغاربها، ولا زوايا رماديّة ينزوي إليها من لا يرى إلا ذاته، وهو ينفخ فيها لتتضخم أمام صولجان الوطن.

 

فكما يبدو واضحًا أن إرادة كل الجنوبيين قد أشرقت على تلك الجغرافيا الوطنية التاريخية الممتدة بفخر واعتزاز وكرامة وإباء وشموخ وكبرياء من باب المندب والعاصمة عدن غربًا حتى المهرة وسقطرى شرقًا، بعد أن اجتازت القوات المسلّحة الجنوبيّة لأول مرة بعد حرب الاجتياح في صيف العام 1994م، كل العراقيل والتحديات وتمكنت بتضحياتٍ جسام من السيطرة على الأرض التي كانت دولة لا يشق لها غبار حتى الحادي والعشرين من مايو 1990م.

 

ولأن إرادة شعب الجنوب اليوم تكتب تاريخًا جديدًا على جبين الوطن، وهي مثقلة بمعاناتها المعيشية وكوارثها الخدماتية التي كانت آخر أوراق التركيع الممنهج لانتزاع هذه الإرادة التي انتفضت من تحت ركام المعاناة ونار الكوارث لتؤسس لملامح وطن جنوبي فيدرالي جديد، يبتعد بأزمنة فلكية عمّا كانت عليه عقود ما بعد الاستقلال الأول نوفمبر 1967م، ومتجاوزًا إلى غير رجعة كل منغصاته التاريخية التي لم تزل عالقة في أذهان الأجيال التي عاشتها واكتوت بنار صراعاتها.

 

فإن صفحات التاريخ الجنوبي في كتاب أجياله الجديدة تفرد سطورها لمن يدرك حقيقتها ويؤمن بأن إرادة الشعب قد أمسكت بتفاصيل هذا التاريخ، وأصبحت تخطّه في فضاء الوطن باتساعه الإقليمي والدّولي.

 

وفي هذه اللحظة التاريخية، ومثلما أفرد شعب الجنوب صفحات تاريخه القادم ليسجّل عليها مواقف الشرف والخلود لكلّ الشرفاء والمخلصين من أبنائه الذين ظلت مواقفهم تتأرجح بين حسابات اللحظة ومنافعها، وحساسيات الماضي ومآربها، وهو يعيش المأساة اليومية التي استنزفت كل مقومات بقائه إلا من إيمانه بعدالة قضيته، وتضحيات شهدائه الأبرار، وأنّات جراحه الميامين، وينظر في كل الأنحاء، في داخل الوطن وفي الشتات لكثير من رجاله الذين لم تزل خصومتهم مع التاريخ تغرقهم في وحل الجغرافيا الموهومة بوحدة مذبوحة من الوريد إلى الوريد، لكي يستبين الخيط الأبيض لهم والوعد الصادق بحقّ شعبهم في استعادة دولته ورسم ملامحها بعيدًا عن مهالك الماضي، ويأمل في أن تلحق هذه القمم الجنوبية التي تقوقعت في تاريخها المكلوم، بركب الزمن الجنوبي الآتي من جحيم المعاناة، وكثير التضحيات، لكي ترسو معه على مرفأ الحرية والاستقلال.

 

وما هذه الساحات التي عطّت جغرافيا الجنوب بالاعتصامات الجماهيرية إلا بمثابة النداء الأخير لكل من ارتقى إلى مصاف تطلعات شعبه في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، فهل من مستجيب؟ وكفى.

*- صالح حسين الفردي