*- شبوة برس – أ. فيصل بن ماجد السبيعي (*)
لطالما شغلني التفكير في أمر الكتاب الذي سيقرؤه كل إنسانٍ يوم الدينونة الكبرى والعرض الأعظم، وسيجد فيه كلَّ ما عَمِلَه من قولٍ أو فعل؛ فهو كتابٌ: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) الكهف 49، وهو كتابٌ مَرْئِيٌّ مُشَاهَد: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) الزلزلة 7 – 8.
كما تفكرت وتأملت – أيضًا – في كتابة المَلَكين لأعمال العباد: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) ق 17 – 18، ولكني كنت – ولا أزال – أرى أن الله ليس بحاجةٍ لكتابة هذين الملَكَين الكريمَين؛ فهو علاَّم الغُيُوب، وإنما هما شاهدان لا أكثر.
وكما أن لكل متَّهَمٍ دفاعًا؛ فقد يدافع الإنسان عن نفسه بأنه لا يعترف بشهادة الملائكة، وإذن فلا بد من دليل وحجة وبصيرة وبرهان أكثر إلزامًا لهذا المخلوق الذي قال الله عنه: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) الكهف 54.
كما أقلقني – كثيرًا – إجماعُ العارفين من أهل الاختصاص بأن الإنسان لا يستعمل مِن قدرات دماغه الجبار سوى 10 إلى 20% طوال عمره، وهو ما يعني القدح في كمال حكمة الله تعالى؛ إذْ كيف يخلق 80% دون فائدة؟!
ثم أكثرتُ القراءة في علم النفس، وتحديدًا عن العقل الباطن، وعلمت أنه يحفظ كل ما مرَّ بالإنسان منذ تمهيده إلى تلحيده، سواءٌ ذكر ذلك أم لم يذكره. وقد تَخرُج مِن العقل الباطن إلى العقل الواعي أمور كثيرة؛ مثل الأحلام، ومثل نطق المصروعين والمصابين باختلال في كهرباء المخ بلغات لا يعرفونها، وذلك ناتجٌ عمَّا قام العقل الباطن بتخزينه ممَّا سمعه المصروع وهو في وعيه هنا وهناك، الأمر الذي يظنه الدراويش والبسطاء مَسًّا شيطانيًّا من جنٍّ أعجمي!!
لذلك فقد وصلت إلى ما يشبه القناعة، بأن الـ 80% من الدماغ هو العقل الباطن، وهو الكتاب الذي سيُعرَض علينا يوم الدين، ولن نستطيع الإنكار؛ لأن الشاهد من أنفُسِنا ذاتِها، قال تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة) القيامة 14، وأشدد على عبارة (على نفسه)، والبصيرة هي الحُجَّة.
وقال - جَلَّ شأنُه - أيضًا: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الإسراء 14، وأشدِّد هنا – كثيرًا جدًّا – على عبارة (بنفسك).
ولأن "التسجيل" صوتًا وصورةً ومشاعرَ وأفكارًا ومعتقدات، هو أمرٌ مستمر منذ الولادة إلى الوفاة؛ فقد احتاج الأمر إلى "قرص صلب - Hard Desk" ذي سعة تخزين كبيرة، فأصبح من المنطقي أن تكون النسبة 80% أو أكثر.
والله أعلى وأعلم.
هامش:
أعجبني وصف الدكتورة "فاطمه محمود" للعقل الباطن - في مقال لها بجريدة أخبار الكنانة - بأنه "الصندوق الأسود للإنسان" (مرفق صورة) وهو - في علم الطيران - جهاز يقوم برصد كافة الأحداث من مكالمات ومعلومات عن سير الرحلة، وقد سُمِّيَ بالأسود؛ لأنه لا يُحتاج إليه إلا في الكوارث، وإلا فلونه برتقالي كي يكون واضحًا بين الحُطام.
*- كاتب وباحث سعودي في نقد التراث