‘‘الجزيرة‘‘ والجنوب... تحرير مع وقف التنفيذ

2017-01-01 03:13

الفيلم الوثائقي الذي أذاعته قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية يوم 25 ديسمبر الجاري حول مصير سلاح الجيش اليمني منذ عام 2014م، والذي حمل عنوان "السلاح المنهوب"، أثار حالة من الجدل بين الكثيرين من الساسة اليمنيين، الذين انقسموا بين مستحسن ومستهجن؛ بين مؤيد لما ورد فيه وجُلّهم من أعضاء وأنصار حزب "الإصلاح" المحسوب على الإسلام السياسي والمدعوم سياسياً وإعلامياً من دولة قطر باعتباره جناح حركة "الإخوان المسلمين" في اليمن، وبين معترض وساخط وجُلّهم من أنصار الرئيس اليمني المنصرف، علي عبدالله صالح، وحركة الحوثيين (أنصار الله) الذين وصفوا هذا الفيلم الوثائقي بالمسخرة والفاقد للحيادية والمصداقية، والمدعوم من دولة هي شريكة بـ"العدوان"، بحسب توصيفهم.

 

أما تعليقات عدد من النشطاء الجنوبيين على ذلك الفيلم الوثائقي - وهذا ما نحن بصدد التركيز عليه - فقد تمحورت حول نقطتين هما: وصف الفيلم لموقف وزير الدفاع السابق قبل وأثناء سقوط صنعاء بيد الحوثيين عام 2014م، اللواء الجنوبي محمد ناصر أحمد، بأنه "موقف متخاذل سهل سقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين"، هذا فضلاً عن اللمز عليه بالخيانة والتسبب بمقتل قائد اللواء المقرب من حزب "الإصلاح"، اللواء حميد القشيبي، الذي قتل أثناء تلك الأحداث؛ مع العلم أن هذا الوزير من القيادات المقربة جداً من الرئيس هادي الذي يتملّق له الحزب كثيراً في الوقت الراهن. ورغبة من حزب "الإصلاح"، فقد تحاشى الفيلم الإشارة إلى مواقف هادي من تلك الأحداث، التي طالما وصفها الحزب حينها بالمواقف التآمرية عليه وعلى الجمهورية، لحاجة الحزب له في الوقت الراهن.

 

نعت القناة وفيلمها للوزير الجنوبي بالموقف المتساهل والمتخاذل أثار حفيظة كثير من الجنوبيين، الذين وصفوا "الجزيرة" بأنها قناة "الإخوانجيين" القطرية التي تناصب الجنوب ورموزه العداء منذ عام 1994م, متهمين حزب "الإصلاح" بأن وقوفه وراء هذا الفيلم هو للبحث عن شماعات ومبررات لمواقفه الإنهزامية أثناء دخول الحوثيين صنعاء؛ حيث تساءل عدد من هؤلاء الجنوبيين بالقول: كيف يمكن لوزير دفاع دولة أن يحارب نيابة عن حزب يتبنى الطائفية والمذهبية ويطلب من المعسكرات والجنود أن يقوموا بالحرب بالوكالة الحزبية عنه ولا يذعن قادته العسكريين لتعليمات وزير الدفاع، بل ويتلقون تعليماتهم من مقرات حزبهم؟ وكيف يمكن أن يقوم هذا الوزير بحرب في الوقت الذي وصف فيه هذا الحزب موقف أعضائه وقياداته ومقاتليه الذين لم يطلقوا طلقة واحدة بوجه الحوثيين بأنه موقف حكيم وعقلاني جنّب العاصمة الدمار، وأن الحزب تعمد بحسب تأكيد صريحات قياداته عدم الإنجرار إلى ما سماه بالفخ؟ وعبارة "لن ننجر" صارت مفردة بارزة من مفردات ومصطلحات سياسة هذا الحزب. وأجمع كثير من النشطاء الجنوبيين على أن موقف حزب "الإصلاح" وإساءاته وتشويهه لموقف الوزير الجنوبي السابق يدل على انتهازية هذا الحزب وتزويره لحقائق التاريخ القريب، ناهيك عن البعيد، مؤكدين أن مصير كل جنوبي يتعاون مع هذا الحزب سيكون كمصير هذا الوزير.

النقطة الثانية التي ركزت عليها المواقف الجنوبية من هذا الفيلم هي وصف الفيلم للعميد عبدالله الصبيحي بأنه محرر عدن الأول من قوات صالح والحوثيين. جل التعليقات كانت إمّا ساخرة أو ناقدة بحدة لهذا الوصف، وأسباب هذا الإعتراض كانت بسبب الريبة مما يُعتقد أنها حيلة خبيثة من القناة للوقيعة بين الجنوبيين، حيث أن العميد الصبيحي محسوب على حزب "الإصلاح" الذي جُيّر الفيلم لمصلحته، خصوصاً أن كثيرين من الجنوبيين لا يرون في الصبيحي أكثر من قائد عادي، ميّال لحزب "الإصلاح" وموالٍ للواء علي محسن الأحمر، مقارنة مع قيادات عسكرية أخرى تستحق أن تكون هي من تحوز لقب محرري عدن، مثل المحافظ السابق لعدن، الشهيد جعفر محمد سعد، والعميد علي هادي ناصر، وكلاهما قتلا في وقت لاحق.

 

هذا السجال الجنوبي على ما ورد في الفيلم سحب نفسه إلى سجالات جنوبية عقيمة جانبية، أبانت مدى ضحالة تفكير النخبة الجنوبية تجاه عدد من الأمور، حيث انخرطت كلها بالحديث عن من يكون محرر عدن ومحرر الجنوب، بدلاً من قراءة ما وراء الأكمة من ذلك التقرير من رسائل سياسية مشفرة، تبادلتها الأطراف اليمنية المتصارعة على الحكم في صنعاء. وكأن الجنوب قد أصبح اليوم فعلاً محرراً وأصبح ممثلوه قابعين على كراسي التمثيل الدبلوماسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي، وسفاراته منتشرة في عواصم دول العالم. فالجنوب اليوم يمكن القول عنه إنه في وضع "تحرير مع وقف التنفيذ"؛ وقف التنفيذ من قبل الكبار في المنطقة.

 

هنا، لا بد للعقل من الحضور ولا بد للمنطق من أن ينتصب عالياً. فما جرى في الجنوب حتى اليوم ليس تحريراً بمعنى التحرير الذي يعرفه ويفهمه العالم، بل هو انتصار عسكري لم يتحول بعد إلى مشروع سياسي على أرض الواقع حتى يمكن اعتباره تحريراً. فالتحرير السياسي، أي تحرير سياسي كان، هو المعيار الحقيقي لأي حديث عن التحرير والاستقلال. فالجنوب اليوم ما زال تحت إدارة وهيمنة صريحة لا لبس فيها من قبل الجمهورية اليمنية، وما زالت قيادات الثورة الجنوبية (الحراك الجنوبي) حتى الساعة تتلقى تعييناتها في المناصب الرسمية من قيادة هذه الدولة اليمنية وفي مؤسساتها، وتختم هذه التعيينات بخاتم الدولة اليمنية التي ما زال حتى الآن يقول عنها الحراك الجنوبي وعامة الشعب في الجنوب بأنها دولة احتلال.

 

إذاً، عن أي تحرير نتحدث وعن أي محررين نتجادل؟ هذه القيادات من الشهيد جعفر محمد سعد وعلي هادي ناصر رحمهما الله، وعبدالله الصبيحي وغيرهم، هي قيادات جنوبية شاركت وصنعت نصراً عسكرياً لم يتسن حتى اليوم وبعد مرور عامين ترجمته إلى مشروع سياسي جنوبي تحرري يستهدف استعادة دولة الجنوب، إلا إذا كان البعض يعتبر أن الوضع الذي وصل اليه الجنوب اليوم هو نهاية المشوار وهو التحرير المنشود بعينه. هذه هي الطامة الكبرى وهذه هي ذروة الإستخفاف بالتضحيات الجسيمة للشعب في الجنوب منذ عقدين ونيف من الزمن.

*نقلاً عن موقع "العربي".