الشرعية حين تتحول من مبدأ قانوني إلى أداة تعطيل

2025-12-29 05:45

 

في مقاله المنشور في صحيفة الشرق الأوسط تناول الكاتب والصحافي البارز عبدالرحمن الراشد مسألة الانفصال في المنطقة متكئًا على مفهوم الشرعية الدولية لتفسير لماذا نجح انفصال جنوب السودان وفشلت تجارب أخرى وصولًا إلى الجنوب العربي المقال كُتب بلغة رصينة ومن منصة إعلامية كبرى وهو ما يجعل مناقشته ضرورة لا بدافع الرد بل من باب حق النقاش المتكافئ حول قضايا مصيرية لا يملك طرف واحد سردها وحده .

ينطلق المقال من فرضية أن المجتمع الدولي يرفض الانفصال من حيث المبدأ وأن الاعتراف الأممي المشروط بموافقة الدول الخمس الكبرى هو الفيصل النهائي في قيام الدول غير أن هذا الطرح رغم وجاهته الظاهرة يختزل الشرعية في بعدها الإجرائي ويتجاهل كونها مسارًا سياسيًا وتاريخيًا وقانونيًا يتشكل على الأرض قبل أن يُقنّن في المؤسسات الدولية .

جنوب السودان لم يصبح دولة لأن القوى الكبرى قررت منحه الشرعية بل لأن الدولة الأم فشلت طويلًا في إدارة التعدد وتحولت الوحدة إلى حرب مفتوحة استنزفت الجميع وعندما صار الانفصال أقل كلفة من استمرار الدولة جاء الاعتراف الدولي ليكرّس واقعًا قائمًا لا ليصنعه من فراغ .

التجربة الكردية في العراق التي تُستدعى عادة للدلالة على أن الاستفتاء لا يكفي تؤكد في جوهرها مسألة مختلفة تمامًا وهي أن توقيت إعلان الاستقلال وإدارته السياسية لا تقل أهمية عن عدالة القضية الأكراد لم يُهزموا لأنهم بلا حق بل لأن البيئة الإقليمية والدولية لم تكن مهيأة للاعتراف في تلك اللحظة .

أما صومالي لاند فهي مثال حي على أن توفر مقومات الدولة لا يعني بالضرورة نيل الاعتراف فهنا لا ينقص الواقع ولا المؤسسات بل الإرادة السياسية الدولية الخائفة من سابقة قد تعيد فتح خرائط مغلقة منذ عقود .

عند الانتقال إلى الجنوب العربي تصبح المقارنة أكثر تعقيدًا فالجنوب لم يكن إقليمًا داخل دولة بل كان دولة كاملة السيادة وعضوًا في الأمم المتحدة دخل وحدة تعاقدية عام 1990 في ظرف دولي مختل ثم سقطت تلك الوحدة فعليًا بحرب 1994 حين فُرضت بالقوة وأُلغيت أسس الشراكة السياسية وهو ما يجعل توصيف القضية كحالة انفصال توصيفًا قاصرًا من الناحية القانونية و التاريخية .

القول إن قبول الشمال شرط لازم لأي مسار جنوبي ناجح يبدو أخلاقيًا لكنه سياسيًا وقانونيًا ليس حاسمًا فالقبول عامل مساعد بلا شك لكنه ليس شرطًا مانعًا متى ما توفرت إرادة شعبية واضحة وقدرة على الإدارة وبناء واقع مستقر قابل للحياة التجارب الدولية تؤكد أن الاعتراف غالبًا ما يلحق بالواقع لا يسبقه .

أما المجلس الانتقالي الجنوبي فليس كيانًا فوق النقد لكنه في الوقت ذاته ليس ظاهرة طارئة أو سببًا أصليًا للأزمة بل نتاج فراغ سياسي وفشل متراكم لشرعيات سابقة عجزت عن تمثيل الجنوب والدفاع عن مصالحه والشرعية ذاتها ليست صكًا دائمًا بل علاقة متغيرة تتآكل حين تفشل في تلبية تطلعات الناس .

ولا يمكن تجاهل حقيقة أن عبدالرحمن الراشد بحكم مكانته المهنية ومنصته الإعلامية يملك القدرة على كتابة ما يشاء عن الجنوب وتوصيف واقعه كما يراه ومن على واحدة من كبريات الصحف العربية الصادرة في لندن وهو امتياز مشروع في عالم الصحافة لكن السؤال الذي يفرض نفسه كم من كتاب الجنوب يمتلكون الفرصة ذاتها للوصول إلى الرأي العام العربي والدولي من المنابر نفسها وكم من السرديات تُكرّس لا لأنها الأدق بل لأنها الأعلى صوتًا والأوسع انتشارًا

الشرعية في جوهرها ليست أداة تعطيل ولا مبررًا للتجميد بل وسيلة لتنظيم التحولات الكبرى وعندما تُستخدم كشرط تعجيزي تفقد معناها القانوني وتتحول إلى أداة سياسية صرفة .

الجنوب لا يحتاج إلى استعجال مغامر ولا إلى انتظار مفتوح باسم العقلانية بل إلى إدارة واعية لقضيته تبني توافقًا داخليًا حقيقيًا وتقدم نموذجًا قابلًا للحياة ثم تخاطب العالم من موقع الفعل لا من موقع الطلب فالتاريخ لا يكتبه من يحتكر المنابر ولا من يحتكر تعريف الشرعية بل من يحسن تحويل الحق إلى واقع و الواقع إلى اعتراف .