التداول السلمي للصفحة

2025-03-31 16:00

 

ليس في العنوان أي خطأ أو سهو طباعي أو نحو ذلك، مما قد يتبادر إلى الذهن. فهو كذلك: التداول السلمي للصفحة. فإذ أبدى الزملاء الأعزاء في المجلة رغبتهم في أن أخلف الصديق د.عبدالله الجعيدي في كتابة هذه الصفحة، مازحتهم كعادتي قائلاً: فكرة التداول السلمي للصفحة تبدو لطيفة، وحتى اسمها، يبدو لي، يؤدي إلى ذلك. لكن في الأمر سعة. إنما مبدئياً سوف أكتب مقال العدد القادم. 

أما وقد خلفت د. عبدالله، فلعل قائلاً محباً يقول:"خير خلف لخير سلف". وعندئذٍ أجدني، بل منذ الآن، واقفاً على فكرة التداول السلمي للصفحة قبل السلطة. فخارج سياق السياسة - والحياة سياسة على أي وجه قلّبتها – نؤول إلى التداول ههنا بعد 34 توقيعاً، لكنه تداول لم يكن تحت ضغط أو ما شابه. بل كان بمحض الإرادة والاختيار والإيثار. وهنا نقطة الافتراق بين سياقين سياسي وثقافي. فالرقم 34 يحيل إلى طول مكث الحاكم العربي في السلطة، متفرداً، حتى انفجار الشعب، ثم تدمير المدمر. لكن في حالة كالتي هي مدار المقال هنا، يبدو الأمر مختلفاً. ولعلي أقترح، إمعاناً في تفجير كوامن فكرة التداول، أن تفرد الصفحة، في كل عدد لزميل يوقع مقالها، كما أفعل الآن. فعنوان الصفحة "توقيع قلم". 

ولعل تنكير المضاف إليه هنا مفتاح إلى جعلها منصة لفكرة التداول السلمي للسلطة الذي يبدأ من التداول السلمي للصفحة. وهي فكرة جديرة بالتأمل، لا من نافذة الطرافة في لعبة الاستعارة والتوازي، وإنما من منظور أن الممارسة تبدأ من أصغر ذرة في تشكيل الوعي الحقيقي بمفهوم العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين أفراد الجماعة – المجتمع – الوطن. 

من هنا تأتي فكرة التداول لا الاستخلاف، بالحفر في عمقها وجوهرها، فهي فكرة ديمقراطية بالمعنى الثقافي قبل السياسي، واتخاذ الصفحة نموذجاً منتجٌ، مغيّرٌ، مجدّدٌ، محفّز. ومثلما أن التداول السلمي يمنح الأنظمة السياسية قدرة على التجديد، فإن تداول الكتابة في الصفحة يضفي على المجلة زخماً وفعالية، فكل كاتب ربما يختلف منظوره ورؤيته عن الكاتب الآخر، ويغدو الأمر أكثر فاعلية إذ تكون الصفحة متاحة لأقلام من أجيال مختلفة، ففي هذا ما يعزز التنوع والتعدد، ويشعل أمطار الرؤى، ويلاقح الأفكار.

ولعل في الفكرة مدار المقال هنا رمزيةً ما، من حيث أنها تثير فضول المتلقي وتذكي توقعاته، بحيث تكون الصفحة فاكهة المجلة، يتملاها فإذا هي في كل مرة مختلف مذاقها ولونها، فتصيبه منها عدوى إيجابية، أعنى دُربة التجديد والتغيير، وانتظار المفاجئ وربما الصادم. فمن يدري فقد تصير الصفحة نافذة حوار وجدل وربما اختلاف بين كاتبين أو ثلاثة ممن تداولوا سلمياً عليها، أو من هم خارج التداول أو لما يمارسوه. لكنه حوار وجدل واختلاف لا تُسَل فيه نصال مستدعاة من خارج سياق: الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، والسؤال بالسؤال، فتُثرى بذلك سياقات ظاهرة ومضمرة، هي المشترك الضامّ والضامن بين زملاء الحرف والكلمة والرؤية.

فكرة التداول السلمي للصفحة تُسقط صنمية (القائد الضرورة) – الذي قد تكون صفته هذه مقتبسة من مدلول المثل الشعبي "قلة المِهرة ضرورة – فالتداول، بعيداً عن أي ظلال سياسية (تتحذف علينا من كل ناحية) يحيل إلى استضافة الأقلام أو استكتابها، لإثراء الأفكار، وإثارة الأسئلة، وإدارة المساءلات العابرة للزمان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. 

ومثلما أن التجديد في السياسة محكوم بالتداول السلمي، فإن المشهد الثقافي يثرى باختلاف الأصوات وتعددها وتنوعها، فنكون بذلك أدنى إلى نبض اللحظة، نواكب المتغيرات مؤثرين فيها، لا متأثرين واقعاً علينا من آثارها كل ما هو سلبي غالباً.

على أن فكرة التداول السلمي قد تتعدى الصفحة إلى التحرير. فالجيل الشاب هو صوت المستقبل، ومن عتبات الثقافي يبدأ تمكينه فكرةً وممارسةً، بحيث تمتد بين الأجيال والأصوات دروب تضيء نيرانها العتمات ولا تحرق الغابة. وعندئذ يُصار إلى فك الاشتباك بين سياقين متداخلين. لا أعني الثقافي والسياسي، على خلفية التصادي بينهما في فكرة التداول، بل بين أن نقول ولا نتعدى حاجز القول، فيظل الفعل هو الغائب الأول في متوالية مُلتفّ عليها، بخطاب بنيته العميقة تنميق وتزويق، يهدف إلى تزويغ من لحظة هرمنا قبل أن نراها: لحظة التداول السلمي للسلطة لا السياسية فحسب. بل السلطة من حيث هي في أي سياق تلقي بظلال تمثلاتها الثقيلة؛ فتتعسفها، وتفضي إلى متاهة تفضي إلى متاهات مفضية إلى متاهات!

                                        سعيد الجريري