إنهم هم مصدر الوطن وتعاسته، بأفكارهم المنحرفة وطنيًا والحاقدة جهويًا، سواء أكانوا مثقفي الشمال بما يحمله أكثرهم من حقد وضغن على الجنوب وثقافته بل ووجوده الحضاري المتمثل في عدن وحضرموت، أو من مثقفي الجنوب الذين انساقوا للانحراف الفكري القادم من الشمال وروجوا له عن طيب نية وحسن ظن بأولئك أو عن مصلحة آنية أو عدم تقدير للمآلات.
إنهم ينظرون إلى الثقافة وروادها في الجنوب (عدن وحضرموت) بوصفها من مخلفات الفترة الاستعمارية السابقة التي يجب كنسها وتطهيرها، فمثلاً يقول أحدهم: "إن عوامل التجزئة والتفرقة التي كرستها السياسة الاستعمارية لم تكن لتتغلغل في أذهان الناس البسطاء وحدهم، بل تجد أن المثقفين كانوا أكثر الناس وقوعًا في هذا المأزق الذي مزّق الكيان الجغرافي والفكري على حدّ سواء". ويقول آخر: "بدا أثر الاستعمار في خلق عدد من ملامح تخلف التفكير الاجتماعي والتي ركزت في خلق العوامل للفرقة والتمايز بين اليمنيين، فأديب عدن هو (الأديب العدني) في حين أن القادم من الشمال (الأديب اليماني)، إلى جانب أدباء البدو (حضرموت) أو غيرها من (المحميات)، وهو ما جعل (العدني) يشعر بتميزه عن غيره"، إلى غير ذلك من الأقوال والإشارات الطاعنة في ثقافة عدن وحضرموت وأعلامها ما لا تسع له هذه المقالة.
لكن المشكلة تكمن في تحولها إلى سلوك سياسي حيث يوسوس أولئك المثقفون بأفكارهم الحاقدة المنحرفة لجهلة السياسيين ويزينون لهم قبح رؤاهم حول الوطن وثقافته وهويته باسم تعميم وتجذير اليمننة (أي الشمألة)، والتباكي على الوطنية الزائفة من خلال وجودهم المؤثر في المؤسسات الثقافية والإعلامية في العاصمة صنعاء لتصديرها عبر السياسيين دون أي مراجعة أو نقاش لسائر الوطن في صورة قرارات خاطئة وسياسات مجحفة همشت أو شوهت مظاهر الثقافة في الجنوب.
لكن الغريب أن يتبنى تلك الأفكار المنحرفة بعض مثقفي الجنوب وينخدع بها ويشارك في ترديدها دون إدراك لعواقبها الوخيمة على وجوده الثقافي والحضاري، والمخزي سكوتهم على آثارها السيئة بعد تحولها إلى سياسات لمصادرة وتشويه الثقافة في عدن وفي حضرموت إعلاميًا وثقافيًا وفي مقررات المدرسة والجامعة على حد سواء، وتسليط الضوء على هذه الناحية يبرز البعد الثقافي للقضية الجنوبية الذي لا يقل أهمية عن بعدها السياسي.
ولا شك أن حضرموت هي المتضرر الأكبر من ذلك كله، ليس منذ اليوم كما هو الحال بالنسبة لعدن، بل منذ أكثر من أربعين عامًا وثقافة حضرموت تتعرض لمؤامرة مثقفي الشمال تحت ستار (اليمننة / الشمألة) ومن تأثر بهم من مثقفيها ومثقفي عدن تحت ستار (اليمننة/ الجنوبة) حتى نشأ جيل لا يكاد يعرف شيئًا عن ثقافته وأصالته، ومعجب فقط بالثقافة المصدرة له من الشمال اليمني والجنوب العدني، وقد فطن لهذه المؤامرة الخفية عدد من مثقفيها ولكنها لم تجابه مجابهة حقيقية ومدروسة إلا بكتابات محدودة وأصوات خجولة.
الأمر الذي جعل الآخرين من مثقفي الوطنية الزائفة المنحرفة يلجون في عتوهم ويمدون في طغيانهم وظنوا أنفسهم على شيء، حتى خنقوا حضرموت في كل مجال ثقافي أو إعلامي أو تعليمي، سواء في داخل الوطن أو في خارجه، والجميع يمتلك مئات الشواهد على ذلك بحيث يشكل ملفًا وقضية يجب أن يتمثلها مثقفو حضرموت ساحلها وواديها ويضعوها بجدية ومسئولية على طاولة البحث والنقاش وتحديد ما ينبغي رفعه للمعنيين للخروج بتشخيص ومعالجات لها، وإلا فويل لنا من ضمير الأمة وأجيالها القادمة.
*- د. أحمد باحارثة