برحيل الرئيس السابق علي عبدالله صالح يدخل اليمن مرحلة مختلفة لم يعرفها في تاريخه السياسي، فلقد ارتبط الرئيس صالح باليمن سياسياً على مدى أربعة عقود تقريباً كان فيها محور الأحداث وصاحب المبادرة السياسية وتشكيل العملية السياسية اليمنية بكل ما في تلك العملية من أخطاء تراكمت منذ وصوله إلى السلطة في 1978م، وحتى يمكن قراءة مشهد اليمن بعد تصفيته الجسدية على يد الحوثيين لا بد من النظر إلى زاوية علي عبدالله صالح الذاتية التي شكلت السياسة اليمنية.
براغماتية عالية يمتاز بها الرئيس السابق صالح تُعد هي القوة الكامنة التي يمتلكها ومن خلالها يستطيع امتصاص المواقف مهما كانت، هذه القوة التي استخدمها الرئيس صالح على مدى أعوام لم تُسعفه في الأوقات الأخيرة من حياته عندما استعاد الوعي اللحظي بما فعله في سبتمبر 2014م يوم تحالف مع خصومه الحوثيين بإسقاط الشرعية، إذن نحن أمام القوة التي اختبرت اختبارها الأخير وقد كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تنجح لولا أن عوامل الخذلان من طوق قبائل صنعاء وحزب الإصلاح (إخوان اليمن) الذين رفضوا التقاط فرصة التحرر من قيود أزماتهم مع الرئيس صالح فتُرك وحيداً يواجه مصيره على يد الحوثيين الذين لطالما منحهم فرص الحياة بعد كل معركة خاضها معهم في حروب صعدة الست.
(الراقص على رؤوس الثعابين) لطالما كان يمتلك الشجاعة في المجاهرة بهذه القدرة، ولطالما كان قادراً على أن ينعطف في مسارات سياسية تتجاوز حدتها كافة المعطيات التي تكفل له العبور الآمن، تحالفاته هي جزء من تركيبته الذاتية لذلك لا يمكن تصنيف الرئيس السابق صالح على اعتبارات القيم والمبادئ، فالسياسة في منظوره هي إخضاع اللا ممكن لما هو يريد، في 2012م تنازل عن كرسي السلطة ولكنه بقي قابضاً على أرجل الكرسي واستعاد جزءاً من السلطة بينما كان الآخرون يتصارعون على طاولات الحوار الوطني باحثين عن حصصهم السياسية إلا علي عبدالله صالح كان قد عقد صفقته الأخيرة مع الحوثيين فتقاسم السلطة وخرج الآخرون منها بما وجدوه على الطاولات.
المشهد ما قبل الأخير من اغتيال صالح كان باذخاً في التحول الدراماتيكي قبل أن يتحول المشهد الأخير إلى أكثر مشاهد الدراما غموضاً ليس بسبب حادثة الاغتيال، بل بالأفق القادم إلى يمَن من غير صالح.
في الموروث اليمني يبرز الثأر كواحد من أكثر ما يرتبط باليمنيين عُرفاً وتقليداً، واستدعاء نجل صالح الأكبر أحمد عند كثير من الأطياف اليمنية جاءت بحكم الغريزة الدافعة للثأر، يظهر الجنرال أحمد في المشهد اليمني مؤكداً المتلازمة اليمنية كذلك فالتوريث هي صفة ملاصقة للشخصية اليمنية، فشيخ القبيلة يكون أبنه شيخاً للقبيلة، والطبيب يكون ابنه طبيباً، والمعلم لا بد أن يكون ابنه مُعلماً، هذه موروثات يمنية هي التي استدعت أحمد علي صالح ليثأر لوالده وليتسلّم كافة المفاتيح التي مات صالح وهي في جيبه.
اليمن ما بعد صالح ليس اليمن ما قبله، فلقد فقد اليمن علي عبدالله صالح ولن يستطيع أحد شغر المكان الذي تركه، وهذا يعني أن قواعد اللعبة السياسية ما بعد صالح ليست هي ما قبلها، فالرجل الذي كان يستطيع أن يحشد الجماهير لتأييد مواقفه الحزبية أو حتى السياسية بمكالمة هاتفية واحدة لم يعد موجوداً في اليمن، لذلك شعر الكثيرون منذ لحظة سماعهم لخبر اغتياله أن الضعف والهشاشة تسود كل الشخصيات اليمنية وحتى القوى السياسية التي باتت أمام حقيقة واحدة أنها عجزت عن إنقاذ صالح عندما كان هو يحتاج لمساعدتهم فلقد فوّتَ الجميع فرصة حقيقية لاستعادة صنعاء من قبضة المشروع الإيراني.
الخيارات ما بعد صالح تقلصت بشكل مخيف، بات على اليمنيين أن يجلسوا مع ذاتهم بكثير من التجرد، فالحوثي يمثِّل وجهاً عابساً من الإسلام السياسي يشاركه في ذلك العبوس حزب الإصلاح كلاهما بمرجعية ترتبط بأيدلوجية لا تستقيم معها السياسة ومفاهيمها، ولدينا حزب مؤتمري يعيش في غرفة العناية المركزة؛ فلقد فقد من الرؤوس الكثير وبات مُضرجاً بدمائه، هذا واقع اليمن ما بعد صالح خيارات صعبة وآفاق غامضة.