ها هو 30 حزيران (يونيو) عتبة الموعد، ولكن هل هو في المقابل عتبة الوعود التي يُمنّي طرفا المشاورات نفسيهما بتحقيقها. بدت أميركا أخيراً مهرولة في سباق محموم لمحاولة إسقاط ما استطاعت من أوراق نظيرها الإيراني وفي المقابل إضافة أوراق إلى إضبارة ملفها التفاوضي، وعلى ذلك فرشت «ماكيت» المنطقة على طاولة خططها الاستراتيجية في محاولة تمحيص رسومه وخطوطه لعلها تمسك على مداخل وتكتشف طرقاً إلى هدفها الأهم في المنطقة وفي الوقت الحاضر، ألا وهو الاتفاق النووي مع إيران، الذي لا تألو جهداً في تجنيد كل قواها لتحقيق نجاح فيه وفق ما ترمي إليه وتبتغيه. «ماكيت» المنطقة لا تنقصه الإيضاحات ولا يحتاج إلى جهد تمحيص، فقد غدت معينات مشهده على رأسها دخان بل متفجرة بحمم الملفات الملتهبة المتشابكة خطوطها ومساراتها. وهذا هو الملعب الأحب للسياسة الاميركية، وعطفاً على ما سبق كانت جنيف إحدى زوايا الملعب الأقرب والأكثر استخداماً من قبل الولايات المتحدة، وكان الملف اليمني الأكثر سخونة وإلحاحاً والأبرز حاضراً ضمن المعينات المنثورة على سطحه. وعلى ذلك اشتغلت الأداة السياسية الأميركية على جبهات لا تخلو من المساومة حيناً والضغط حيناً آخر لما وقع تحت يدها من أطراف الصراع وأنزيمات الأزمة، مجرجرة الملف من الرياض مروراً بمسقط وانتهاء بجنيف كما أرادت له أن ينتهي ولكن هيهات!! وذلك سياق آخر له مقام وتحليل آخر.
في 15/6/2015 ظهرت جنيف كأنها مختزل لتاريخ 30 حزيران الموعد المفترض لنهاية المحادثات النووية الأميركية - الإيرانية!! جنيف كمفهوم سياسي وجنيف كفعل أممي وضعت بين مزدوجين، يحيلان لإعلان ساعة الصفر في المحادثات المزمع عقدها، ولقد لاح أن كل الاطراف تخوض السباق المحموم أعلاه، ونعني بالكل ليس فقط الطرفين المباشرين أميركا - إيران. بل هناك الأطراف غير المباشرة التي تعنى باللقاء ولا تفوت نصيبها في الاشتغال على مربعه. وإذ يبدو السباق موتوراً ومتواتراً تهادت جنيف كمقر لمنظمة الأمم المتحدة مكاناً مائجاً موسوماً بخطوات وخطوط العرض والطول لدول القرار «الدول الكبرى».
منظمة الأمم المتحدة التي يفرض دورها أن تكون على مسافة واحدة من جميع أطراف الأرض وشعوبها، كما تشدد وثيقة إنشائها، شاب موقفها الارتجاج حيث رأيناها في كثير من القضايا تنوس وتنحني لتضييق مسافتها مع هذا الطرف أو ذاك، بل رأيناها في بعض القضايا وقد ألغت المسافة واندغمت كلياً في موقع طرف دولي على حساب مسافتها الملزمة، ووصل بها الأمر حيناً حد إيجاد مفازة من صحارى الرمال المتحركة بينها وبين الدور المناط بها وسوية موقعها الأممي، كما ظهرت الاطراف وكأنما تطل على فنجان لقراءة الطالع، علّها تسجل سبقاً لقراءة مستقبل مشروع السلاح النووي في المنطقة بشكل عام، توازيه مشاريع أخرى لتوازن القوة العالمية وتمركزها، حيث تدل مؤشرات الأحداث على صياغات جديدة لتموقعات موازين القوة والقيادة والتمحور في المشهد العالمي، أو في ما يخص تحديداً مناطق الصراع والمصالح التي لا تنفك رحاها تدور من دون توقف.
ذهبت أطراف الصراع اليمني إلى جنيف، ولن نسهب في شرح أن اللقاء كان اعتسافاً لواقع حرب لم تحسم بعد معطياته ولم تنضج متغيراته أو تتضح حدود رؤية أطرافه جميعاً، كما لن نسهب في ما أُعلن من فشل اللقاء، ولن نقول المثل السائد: عادوا بخفي حنين (لأنه كان هناك خف لفتاة جنوبية طار في سماء المشهد ووقع على منصة الحوثي وطغى على ما عداه)... لكن القراءة تحتّم علينا التعريج ولو قليلاً على تجليات الأطراف اليمنية التي ذهبت لجنيف محمولة على رؤى ومسارات وملفات ليست كلها وشيكة الصلة بالأزمة اليمنية إلا من حيث استخدامها كأدوات وتحريكها في اتجاه ما يخدم ملفات كواليس الاطراف المعنية مباشرة بصوغ وإعادة صوغ «ماكيت» المنطقة، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني. ذهب وفد القوى السياسية اليمنية كما سمّوا أنفسهم أو سمّاهم «مخاتلة» المستشار الجديد للأمين العام للأمم المتحدة «ولد الشيخ» وهي القوى الموالية للشرعية ذهبوا إلى جنيف بل الأصح جُرّوا سحباً إلى اللقاء متزحلقين من قمة الشروط المتشددة إلى رخاوة التعاطي بقبول اللقاء والهرولة اليه. متفاجئين ومربكين كانوا لربما لأنهم لم يتوقعوا الدور الأميركي الذي ساواهم مع خصمهم، ولم يحضّروا أنفسهم لما دار من «كولسة» أميركية بدأت في مسقط وانتهت لسحبهم قسراً إلى جنيف!! وبدوا كمن ينتظر عناية الراعي. بينما ظهر الوفد الحوثي ووفد الرئيس «المخلوع» علي عبدالله صالح وهو يمسك بخيوط اللعبة التي شهد وشارك في بعض اجزائها حتى في صورة «دوبلير» للطرف الإيراني، لذا ذهب وهو يعلم إلى حد كبير ما وراء جنيف المختزلة. وعمل جهده لإفشال اللقاء كما أنيط لدوره المرسوم في اللعب المتفاقم بين أميركا وإيران، ونزع - إلى حين- أي أوراق ضغط أرادت أميركا إدخالها في ملف اللقاء النووي.
وبالنتيجة ذهبت محاولات أميركا في لقاء جنيف، التي توخّت منها الكولسة لما قبل حزيران وتشبيك الخطوط وإدغام المسارات، أدراج الرياح. وكان الخاسر الأكبر ومجدداً ودائماً هو الرصيد الأخلاقي للمنظمة الأممية المختزلة.
* الحياة