من يضغط الريموت أولاً؟ عطفاً على السؤال وإجابة عليه فإن الضربة الموجّهة لليمن أظهرت في ما يبدو جلياً أن المملكة العربية السعودية ودول التحالف قررت أن تبادر إلى الإمساك بالريموت والضغط عليه.
غير أن الأحداث الأخيرة بوتيرة دراميتها التي ألهثت قنوات الإعلام العالمي والعربي بمشاهدها المتلاحقة والمفاجئة والمفارقة، أثبتت كذلك بأن اليمن لا يمكن الإحاطة بفسيفساء مشهده السياسي وتداخل ألوانه القاتمة عموماً وتعدد مستويات تضاريس رقعته السياسية، بما تكتنفه من تعارضات وتعامدات وتحالفات واستقطابات وافتراقات.
فمن جماعة الحوثي التي صنعت لنفسها بفرض واقع القوة عنواناً تبدّى هو الحاضر الأول والأقوى في ميزان المشهد، إلى الرئيس السابق علي عبدالله صالح وفلوله، الذي ما انفك يمارس هواية الأفاعي «والرقص معها» كما أشار ذات خطاب له، مروراً بجماعات النظام الحاكم الآفلة الحاضرة وتحالفاته القبلية والمشيخية، والأحزاب التي كانت شريكة في منظومة الحكم كالإصلاح، والتي كانت شبه معارضة كالاشتراكي، وصولاً إلى الحراك الجنوبي الذي يطالب بالاستقلال الناجز عن «الاحتلال الشمالي» كما يصفونه وبعض جماعات الجنوبيين التي تطالب بفيديرالية «تكتيكية» مزمنة للوصول إلى الاستقلال، ومؤخراً جماعات دعم شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، وليس انتهاء بميليشيات القاعدة وخلايا الجماعات التكفيرية الإرهابية على أنواعها. ولا يمكن في هذا المشهد الرملي المتحرك إغفال البعد الإقليمي والدولي وملفاته ومفاوضاته ومساوماته ومصالحه واستقطاباته، ضمن مشهدية يبدو فيها الوطن العربي وتحديداً الشرق الأوسط كسجادة تحاول كل مرجعية إقليمية أو دولية الشد على طرف من أطرافها.
وسط كل ما سبق وعليه، فإن التحليل بالضرورة سيقود إلى أنه لا يمكن إعطاء إجابة ناجزة عن ما ستؤول إليه الأمور في الأيام المقبلة، أو ما ستتفتق عنه مخاضات الواقع على الأرض، التي ستقرر أن من يضغط أولاً وفي الوقت المناسب على ريموت التحكُّم في المشهد وإدارته هو من سيشكل قاعدة الفرق بين الغالب والمغلوب (وإن كان في تقديري أن الفوارق تنعدم أو تبدو ضئيلة بين غالب ومغلوب حينما يتعلق الأمر بحرب تشن وبشر يقتلون)، غير أنه في ميزان السياسة فإن قواعد لعبتها تستوجب حرص كل طرف على السبق في الإمساك بريموت العرض، وبالتالي إدارة «كونترول» المشهد وموضعة نتائجه على أرض الواقع.
قامت المملكة العربية السعودية ودول الخليج «باستثناء عُمان» وكذلك مصر وباكستان والمغرب والأردن والسودان في ما يسمى بتحالف «الحزم»، بالإقدام على خطوة جريئة واستباقية لردع ميليشيات الحوثي والجيش الموالي للرئيس المخلوع صالح، وفي شكل غير معلن- ولكنه واضح- صد أطماع إيران- باعتبارها أحد أطراف الاستقطاب في المنطقة- ومنع سيطرتها على اليمن وعلى الجنوب وممراته المائية تحديداً. وبهكذا خطوة أعلنت السعودية ومن خلال عمل عسكري أنها لن تسمح بمشاريع التوسع ووعود التمدد إلى مشارف الممر المائي الأهم على الإطلاق في المنطقة وهو مضيق باب المندب الواقع في المحيط الهندي والذي لا يمكن الولوج إلى قناة السويس والبحر الأحمر وممرات ملاحية أخرى إلا عبره. ولن تُقامر بالفرجة فقط فيتسنى لإيران عبر وكلائها في اليمن التحكُّم في مواقع شديدة القيمة والأهمية كهذا. إلى ذلك فإن الخطورة تكمن في خريطة التمدد التي لا يمكن التنبؤ بها والتي هي أكثر ما تخشاه السعودية ودول الحلف الجديد. وفي العمق يأتي توغُّل الحوثي وداعموه الإقليميون في الجنوب تمركزاً وتماساً دائم التهديد للحدود البرية للمملكة، عدا عن البعد الخفيّ الظاهر لصراع التوسُّع المذهبي الذي يراد أن تستعر ناره في المنطقة الشرق أوسطية كلها.
من ناحية أخرى فإن إقدام السعودية والتحالف الذي تشكَّل بخطوة الردع العسكري ربما لن يشكل حسماً نهائياً أو يضع حلاً ثابتاً لصراع بدأ منذ إعلان الوحدة الذي تلته حرب ضروس على الجنوب، فمفاتيح الحل أبعد من عمل عسكري، فالمشهد المحتدم بما خفي وما ظهر، لا يزال مشحوناً بالمفاجآت التي تحيل على السؤال العنوان: من سيملك الريموت ويتحكم به؟ ولكن، بين السؤال والإجابة مفازات من التكهن!!. فالحوثي الذي أطلق مسيرة «فتوحاته القرآنية» كما يدّعي، لن يتوقف زحفه ولا القوة الإقليمية «إيران» التي تدعم مسيرة توسعها عبره. وصالح الذي بدأ مخلوعاً يتهاوى إثر انتفاضة التغيير 2011 فأعيد إنتاج ترميمه بالمبادرة الخليجية وبرضى فرقاء شراكته من الأحزاب اليمنية ودعم أميركي أوروبي ضرب عرض الحائط حينها صرخات الشعب الذي ثار عليه وتغافل تلك المبادرة عن سجل إجرامه. صالح الذي يتبدّى طرفاً أساسياً في المشهد الصراعي والذي يستغل تناقضاته لإطالة بقائه فاعلاً، يخامره حلم العودة للحكم ولو عبر نجله. كما لا ننسى القوى التقليدية الشمالية، حزبية كانت أو قبلية أو عسكرية، والتي أخرجها الحوثي من المشهد، فهي لا تفتأ تحاول العودة إلى واجهته. في المقابل فإن الجنوب الذي حددت إرادته الشعبية المتمثلة بالحراك الجنوبي منذ سنوات هدفها في الاستقلال وبناء دولة جنوبية مستقلة كما يعلنون منذ 2007، فإن هذه الإرادة المعلنة لن تتراجع وتُلقي بتضحيات سنوات من النضال ضد الوجود الشمالي على أرض الجنوب وتحريره كمطلب اساسي لثورتهم.، وستنافس كذلك للسيطرة على الريموت وانتزاع ضغطة زر توصلها لهدفها. وفي زوايا المشهد تتناثر مليشيات «القاعدة» وعناصر الجماعات الإرهابية التكفيرية جاهزة لسحب مشهد الدولة الإسلامية الداعشية إلى الرقعة اليمنية، وستسخّر جاهزيتها للاستخدام من أي طرف ضد الآخر، ميليشيات ارتزاقية لطالما كانت تُدار بريموت يتحكّم به الرئيس السابق وجنرال حربه علي محسن وبعض مشايخ الفتوى والتكفير في نظامه. هذه الميليشيات تترقّب فرصتها للإمساك بريموت المشهد- حسب الطلب- وإغراقه بالعنف والفوضى والقتل الذي سيمتد إلى دول الجوار، وأقربها السعودية وعُمان.
في الأخير، أن الطرف الذي سيحوز على الريموت ويقوم بضغطه في اللحظة المناسبة سيكون له النصيب الأوفر في التحكم بميزان القوى وترتيب الواقع القادم في اليمن. ولقد تبدّى أن المملكة السعودية اتخذت قرارها بأن تكون صاحبة المبادرة والمبادهة قبل الآخرين، وضغطت في خطوة شجاعة زر الريموت معلنة بذلك للقوى الإقليمية وأدواتها من وجهة نظرها أنه لا يمكن فرض أمر واقع بالقوة، قرار للمملكة ودول الخليج المتّخذ يذكّرني بقرار شجاع آخر اتخذته دول المجلس إبان حرب صيف 1994 التي شنّها جيش النظام الشمالي وتحالفاته القبلي عسكرية مسنوداً بفتاوى تكفير تجيز استباحة أرض الجنوب وقتل شعبه وسبي نسائه آنذاك وتعميد الوحدة بالدم. وكان قرار دول مجلس التعاون حينها الذي جاء في طي البيان الصادر عن الدورة الحادية والخمسين للمجلس الوزاري لدول المجلس بمدينة أبها الموافق 25-26 ذو الحجة 1414هـ 4 – 5 حزيران (يونيو) 1994م ويقضي بما مفاده: «قد رحب المجلس بالوحدة اليمنية عند قيامها بتراضي الدولتين المستقلتين، الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، في أيار (مايو) 1990م، وبالتالي فإن بقاءها لا يمكن أن يستمر إلا بتراضي الطرفين، وأمام الواقع المتمثّل بأن أحدالطرفين قد أعلن عودته إلى وضعه السابق وقيام جمهورية اليمن الديموقراطية فإنه لا يمكن للطرفين التعامل في هذا الإطار، إلا بالطرق والوسائل السلمية. وليس بمنطق القوة والحرب وسفك الدماء وإزهاق الأرواح». وبما أن أحد الطرفين بهذه الوحدة أعلن العودة إلى وضعه السابق وأعلن الخروج من الوحدة ولكن الطرف الآخر متمسك بهذه الوحدة وبقوة السلاح وهذا مرفوض جملة وتفصيلاً». ثم عزز إعلان اجتماع أبها ببيان- أدغمت فقراته سالفاً- صدر عن الاجتماع الوزاري لدول إعلان دمشق في الكويت في الشهر ذاته 1994 مؤكدين يومها ما مفاده: «إن منطق الحرب والاستقواء سيفرض عليهم اتخاذ الخطوات التي يرونها مناسبة».
يبدو القرار الذي اتُّخِذ الآن بردع الاعتداء الحوثي وجيش الرئيس السابق كأنه تناسُل لذاك القرار العادل الذي تأخر موعد تنفيذه أو حان موعده الآن.
ليتهم يومها منعوا فرض الأمر وبالقوة عينها التي يمنع بها الآن، لكانوا وفّروا مشقّة مآلات قيام شبه دولة فاشلة على حدودهم، ها نحن وهم نتابع ونعاني كوارث تداعيها.
* عن الحياة