* تقرير خاص بـ شبوه برس - عند اعادة النشر يرجى ذكر المصدر .
الشحر .. هذه المدينة الساحلية المطلة على البحر العربي كانت ولا زالت وجهة لكل التواقين لعيش حياة كريمة آمنة ومستقرة , ولا غرابة أن كانت وعبر التاريخ قبلة للوافدين من كافة بقاع جنوبنا العربي الحبيب من أقصاه إلى أقصاه , فقد سكنتها قديماً قبائل الشحارا المهرية القضاعية والتي حملت المدينة اسمها , كما استوطنتها قبيلة كندة بعد نزوحها من نجد , ونزلت حي القرية , والذي لا زال لليوم يطلق عليه بـ( قرية الملوك ) نسبة لملوك كندة .
كما وفدت إليها العديد من الأسر العلوية والهاشمية إلى جانب أسر من عشائر وبطون قحطانية وعدنانية متعددة , وبعد تحقيق الوحدة اليمنية المشئومة وفد إليها بغرض الإستيطان العديد من الأسر المنتمية إلى شمال اليمن , فضلاً عمن وفد إليها واستقر بها في فترات متباعدة سبقت الوحدة لتشمل أسر من محافظات جنوبية كشبوة , وابين , وعدن , فضلاً عن لحج وخاصة قبائل يافع والتي استوطنتها منذ قرون عديدة , بل وأقامت عليها دويلات مستقلة لها , كان آخرها السلطنة القعيطية .
وهكذا نجد الشحر وقد أصبحت الحاضنة لكل من يأتي إليها كوافد , أو مستوطن , أو مقيم , أو زائر , دون أن تشعر اي أحد منهم بغرابته عنها , فكانت بحق كما أطلق عليها القداما ( أم اليتامى والمساكين ) , ولعل أهم ما فيها ليجعلها قبلة للوافدين إلى جانب وداعة أهلها وسماحتهم وطيبتهم التي تجسدت في ملامح ووجوه ابناؤها , مينائها البحري النشط , وسوقها التجاري الزاخر , مما انعش هذه المدينة بل وانعش معها كل القرى والمدن المجاورة .
وقديما قيل (( أن القابض على الشحر كالقابض على حضرموت بالحنجور )) .
هذه المدينة وبعد أن كان بحرها وميناؤها مصدر رزق ورفاهية للساكنين فيها , تحول بفعل قوى الفيد والغطرسة إلى نقمة جلبت لها الدمار والخراب حتى ليكاد الساكن فيها أن ينأى بمعزل عنها , وذلك لضياع أمنها وغياب أستقرارها , وتحول ميناؤها إلى ساحة صراع بين متنفدي صنعاء وتجار الحروب , وكلاً يسعى للسيطرة عليها إما لتهريب بضائعه الفاسدة أو لإستنزاف صيادي المدينة والمراكب التي تلجأ إليها .
بل وان الادهى والامر الذي حلّ بها وبأهلها اليوم بسبب بحرها هذا , أن اصبح الصياد فيها مهدداً في رزقه وحياته بعد أن سمحت سلطات صنعاء للسفن والمراكب الاجنبية و لتلك السفن والمراكب التي تتبع لمتنفدين في سلطتها , مزاحمة هؤلاء الصيادين في رزقهم , بل والعمل على دحرهم وإبعادهم عن اماكن صيدهم المشهورة التي لطالما كان الصياد واجداده من قبله يرتادوها رغبة منهم في صيدها الوفير .
ولم تكتفي تلك المراكب بنهب الأسماك وحدها , بل عملت على جرف الشعاب المرجانية والاصناف النادرة من السمك ونقلها إلى وجهات غير معلومة , أو للبحار القريبة من سواحل المناطق الشمالية من اليمن , وسط مرأى ومسمع من هذا الصياد المغلوب على أمره والذي كان جزاؤه في كل مرة يعترض عليهم أو يحتج أما القتل بدم بارد كما حصل للصياد الشهيد سعيد حاج باظرس العوبثاني أو قذفهم من على صنابيقهم (قواربهم) للبحر أو إطلاق النيران عليهم بشكل يومي واستفزازي أو حبسهم في زنازين خاصة داخل معسكر ميناء الشحر النفطي (الضبة) .
وهكذا اصبح الأمر في النهاية معاناة كبيرة للصياد بعد أن أنتقل حال الكثيرين منهم إلى مستوى الفقر أو دونه , وقد كان من قبل الوحدة في مستوى طبقة الاغنياء بل والاغنياء الكبار .
وهذه المعاناة حلت بنفسها وانعكست على المواطن نفسه داخل المدينة والذي اصبح في احياناً كثيرة غير قادراً على شراء السمك , إما لعدمها , وإما لأرتفاع ثمنها , وحتى ذلك السمك المجفف من اللخم (سمك القرش المجفف) أو ما يسمى بالحنيذ أو الوزيف (العيد المجفف) أو المالح , أصبحت سلع بالغة التكاليف يعجز المواطن عن شرائها للأكل , ناهيك عن استعمال بعض منها كعلف لدوابه أو سماد لأرضه كما كان يفعله في فترات سابقة .
ومن المفارقة أن نجد أن اسعار الأسماك في المناطق الشمالية البعيدة عن البحر كصنعاء أو صعدة , أو الجوف , أو ذمار أقل بكثير من أسعارها في المدن الجنوبية الساحلية بما فيها الشحر والذي يصطاد من بحرها .
وهذا الحديث يجرنا إلى ما ورد في الموسوعة اليمنية , الجزء الأول منها في الصفحة رقم (298) , وهي من إصدار مؤسسة العفيف الثقافية , والتي صدرت طبعتها الأولى عام 1992م , وقام بتأليفها مجموعة كبيرة من العلماء والخبراء جلهم من العربية اليمنية وبعضهم أجانب , ففي حديثهم عن الثروة السمكية في اليمن بشطريه نقتبس منها قولهم ((... يقدر متوسط استهلاك الفرد من الاسماك 21 كغ , سنوياً في المحافظات الجنوبية , وهي نسبة عالية تتجاوز المتوسط العالمي لاستهلاك الفرد الذي يبلغ 13 كغ سنوياً , وتنخفض هذه النسبة إلى 4 كيلوغرام فقط في المحافظات الشمالية البعيدة عن الساحل , وهناك إمكانيات واسعة لزيادة الاستهلاك من الأسماك , وبالذات في المحافظات الشمالية التي لم تعرف اسواقها الأسماك إلا في السنوات الأخيرة من عقد الثمانينات , وذلك نظراً للارتفاع الحاد في اسعار اللحوم , وانخفاض مستوى إنتاجية الأرض الزراعية , وأختفاء القيم والعادات الإجتماعية التي كانت عائقاً أمام استهلاك الإنسان للأسماك)) , ويا ليتها ظلت عائقة كما يدّعون لسلمت أسماكنا منهم , ونحن هنا نتساءل عما تم فعله بعد قولهم : ((وهناك إمكانيات واسعة لزيادة الاستهلاك من الاسماك , وبالذات في المحافظات الشمالية)) , وعلى ما يبدو فقد أكتشفنا هذه المعادلة , ولكن متأخرين جداً , فهاهي سفنهم تجرف السمك والشجر , وهاهي سياراتهم (العوازل) لا تفارق ميناء الشحر السمكي , لتشتري الأسماك بأي ثمن كان , وتصديرها فوراً للشمال , لتصبح صنعاء مليئة بأصناف الأسماك وبأثمان بخس , في حين أن سوق الشحر وأهلها محرومون من أسماك بحرها . فهل من معتبر ؟ .
ولهذا نجد ان الشحر تمتلك أكبر اسطول بحري للقوارب الصغيرة الخاصة بالصيادين من ابناؤها ، وكذلك الاعلى نسبة في الانتاج والتصنيع السمكي بين جميع المناطق ، حيث تعتبر أكبر منتجي الاسماك ، وتوجد بها اكثر من 10 شركات تصنيع وتغليف وتصدير للاسماك ، كما تمتلك اكبر ميناء سمكي لإيواء القوارب في الجزيرة العربية ، ورغم كل هذا لقد تفاجأنا في كتاب مادة الجغرافيا للصف الخامس الابتدائي - طبعة 2012م - صفحة (63) ، انه قد تم حذف مدينة الشحر وطمسها من خارطة ( مناطق صيد الاسماك المشهورة في اليمن ) ، حيث تساءل التلاميذ من ابناء المدينة عن ذكر اسم مدينتهم في المناهج التعليمية , ولكن لم يجدوه !!
فعلاً هناك الكثير من هذا الطمس الممنهج للشحر في كتب المناهج التعليمية الاساسية والثانوية تم طمسه تدريجياً وإظهار مناطق أخرى على حسابها ، حيث تم من قبل إلغاء تاريخ الشحر والحملات البرتغالية على المدينة عام 929هـ / 1522م , في المناهج الدراسية الخاصة بصفوف الثانوية العامة ، كما قام هؤلاء بعدم ذكرها كأهم أسواق العرب قديماً على مر التاريخ في تجارة اللبان والبخور والبضائع . قال احد الشعراء قديماً : (( إذهب إلى الشحر ودع عمانا .. ان لم تجد تمراً تجد لبانا )) .
الشحر .. انها أهم المدن التاريخية كونها حاضرة قوم عاد ، حيث يعتبر ميناؤها بوابة حضرموت الوحيدة وحنجورها على مر العصور لتزويد حضرموت بالمواد الغذائية والمستلزمات السلعية وكذلك التصدير إلى العالم الخارجي ، ومنه إنطلقت تجارة الحضارمة منذ القرون القديمة إلى شرق آسيا وافريقيا وفيها نشروا الاسلام ، وبحكم موقعها وميناؤها الشهير ونشاطها التجاري فقد تعرضت في حقب تاريخية للكثير من الحملات والغزوات .
الشحر .. وفي الآونة الاخيرة حاول أن يوصفها إعلام صنعاء البغيض بـ (شرق المكلا) بإعتبارها بلدة أو بليدة تابعة للمكلا ، هكذا أحب هؤلاء الحاقدين والناكرين للمعروف أن تكون المدينة مجهولة الهوية والاسم , كأنهم لا يعلمون شيئاً عنها وعن منهوباتهم من أسماك ونفط , وقد وصل حقدهم إلى حد كرههم لكلمة ( شحر ) فلا تذكر حيث أسموا الميناء النفطي في إعلامهم بـ( ميناء الضبة ) دون ذكر لها .
بالرغم من ان التسمية الحقيقة له والموثقة في إتفاقيات تصدير النفط العالمية وفي اللوحة المكتوبة على مدخل الميناء هو ( ميناء الشحر لتصدير النفط ) منذ إنشاؤه قبل عقود حتى يومنا هذا ، أما الضبة فعبارة عن ربوة في الشحر أقيم عليها ذلك الميناء .. هكذا هي الشحر دائماً تعاني من الطمس في المناهج التعليمية والاعلام ، وتدمير مقصود لآثارها القديمة لغرض محوها من على خارطة التاريخ الجنوبي الحضرمي حتى يتسنى لصنعاء ان تتباهى بتاريخ الشمال وتقلل من تاريخ الجنوب من أجل إنجاب أجيال تجهل عن ثقافة وتاريخ بلدها وموروثها الحضاري في الجنوب وحضرموت بالذات .
اقدم إلى الشحر فستجد حلبات وأسمار الفنون الشعبية تهزك طرباً ونشوى دون منازع وتأخذك إلى دنيا من الاصالة والتراث الحضرمي ، وستجد مساجد وقباب المدينة تعطر صباحها ومساؤها برشفات ونفحات من الإيمان والجهر بصوت الحق والتوحيد .
انها مدينة البحر والفن والدين ، انجبت مشاهير , ربابنة ونواخذة البحار وعلومه وأسراره ، وتخرج منها خيرة مشائخ العلم من اربطتها وعُلمها ، ومنها إنطلق سلاطين الفن والغناء والشعر والعزف , وعشقها الكثير من الأدباء والفنانين والشعراء والمطربين وسكنوا فيها من أجل التزود بالمعارف والعلوم , وأخذ الخبرة من ابناؤها في مجال الفنون الحضرمية الاصيلة ، وقد زارها الكثير من الرحالة والمستشرقين في العصور السابقة .
وقد قال أحد الكتاب عنها : ((الشحر كتاب مفتوح .. عنوانه الجمال.. وخاتمته الوفاء .. وهوامشه أكاليل من الورد والفل والعنبر .. وأريج اللبان ، بينما كل صفحاته من المودة والبساطة )) .