يبدو أن الصورة المنهجية عند بعض الكتاب والإعلاميين يشوبها جانبٌ من القصور في فهم تعريف الهويات ودورها في تمييز الشعوب والأمم عن بعضها، حين يغفلون مجموعة حقائق جوهرية بل بديهيات عندما يحاولون تقليل أهمية الهوية الوطنية لشعب الجنوب العربي، جهلًا أو عنوةً. فالدول والجماعات السياسية المعاصرة لا تقوم بدون هوية موحدة. أي أنه لا يمكن لأي شعب أن يمتلك إرادته أو يطالب بالاستقلال إذا لم يمتلك تعريفه الوطني الخاص به، أي (هويته). هذه أمور واضحة لا يختلف عليها القانون الدولي، ولا المصائر التاريخية للشعوب التي خاضت تجارب التحرر.
الواقع أن الهوية التي حاول ويحاول البعض ربط الجنوب بها، أي الهوية السياسية اليمنية، تعتبر مجرد تركيب حديث مفتعل ومصطنع لم يتجاوز عمره مئة عام. إذ قبل عهد الإمام يحيى حميد الدين في بداية القرن العشرين، لم يكن هناك كيان سياسي موحد يُعرف باليمن بالمعنى الراهن. وتشير الوثائق التاريخية بضمنها إلى أن مستشار الإمام، التركي محمود نديم بك، والشخصية اليهودية سالم الجمل، هما من أوصاه بتغيير تسمية دولته من الدولة المتوكلية الهاشمية (دولة الأسرة والقبيلة) إلى مسمى جغرافي جهوي أشمل هو اليمن، بهدف إضفاء شرعية سياسية على طموحاته التوسعية على أكبر قدر من الأراضي، وتوفير مبرر للتوسع في اتجاه الجنوب والشمال؛ أي اتجاه عدن وحضرموت وبقية مناطق الجنوب جنوبًا، وشمالًا إلى عسير وجيزان ومكة. بمعنى أن القضية لم تكن رؤية وطنية أو قومية أو دينية أو تحقيقًا لنبوءة، بل كانت خطة ضم وأطماع في الموارد والسيطرة.
الهوية الجغرافية اليمنية التي يتمسك بها بعض الكتاب الجنوبيين لا تمثل بديلًا للهوية الوطنية الجنوبية. ففرنسا تقع جغرافيًا في أوروبا، لكن هويتها الوطنية التي قامت عليها ليست بالضرورة أوروبية. الأمر نفسه ينطبق على ألمانيا وإسبانيا والمغرب. الجغرافيا وصف طبيعي، أما الهوية الوطنية فهي نتاج تاريخي وثقافي وسياسي يصنعه شعب معين عبر مسيرته الطويلة. والجنوب العربي (يماني الجهة وليس يمني السياسة والهوية) يمتلك كافة عناصر هذا البناء: أرض جغرافية واضحة، ممالك مستقلة تاريخيًّا، ثقافة بحرية وتجارية وحضرية متميزة عن ما يُعرف اليوم باليمن، تاريخ سياسي منفصل عن اليمن الزيدي، ودولة حديثة تأسست ليلة 29 نوفمبر 1967، حظيت باعتراف دولي كامل، أُلصقت بها اليمننة قَسْرًا قبل أن يذهب بها المغامرون إلى مشروع الوحدة الفاشل مع اليمن.
هذه الحقائق لا تتناقض مع قواعد القانون الدولي، بل تعززها. فميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة - خصوصًا القرار 2625 لعام 1970 - تعترف بحقوق الشعوب ذات الهوية المميزة في إدارة شؤونها وتقرير طبيعة علاقاتها مع الكيانات الأخرى. كما تشير معظم القوانين الدولية إلى أن الوحدة التي تُفرض قَسْرًا أو تفتقر إلى إرادة شعبية حقيقية لا تُعد التزامًا دائمًا، ولا يمكن فرضها بواسطة القوة العسكرية أو السياسية. وهذا بالضبط ما حصل في تجربة مشروع الوحدة مع اليمن في عام 1990 وما تلاها في حرب 1994، التي ألغت جميع أسس الشراكة وحولت مشروع الوحدة الاختياري إلى احتلال وضم قسري.
ما يطرحه بعض الكتاب من مقارنات بين الجنوب العربي ودول عربية أخرى ليس دقيقًا ولا عادلًا؛ لأنها تتجاهل ببساطة الفرق بين الانتماء الجغرافي العام والهوية الوطنية التي تُبنى عبر التاريخ والتجارب السياسية. فالجنوب العربي لا يقتصر على تصنيف جغرافي عابر، بل يمثل هوية وطنية متينة لشعب له تاريخه وثقافته ووعيه المشترك، ولا يمكن تجاهل هذه الحقائق مهما سعى البعض إلى إعادة صياغة تاريخ مصطنع ومزوَّر.
لذلك، نقول إن محاولة طمس الهوية الجنوبية لا تخدم استعادة الحقوق الوطنية ولا الحوار الوطني، ولا تقرّب الحلول السلمية. فالجنوب العربي هوية، وتاريخ، وإرادة، وشعب يعرف من يكون وإلى أين يريد أن يصل.