تعزيرهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكونُ بنُصرتِه وتأييدِه ومَنْعِه مِن كُلِّ ما يُؤْذيه، وتوقيرُه: مُعاملتُه بإجلالٍ وإكرامٍ وتَشريفٍ وتعظيمٍ، وإن كان لفظُ التعظيمِ لم يَرِدْ كما وَرَد لفظُ (التَّعزيرِ) و(التَّوقيرِ) إلَّا أنَّ العُلَماءَ استَعمَلوه في كلامِهم .
*- شبوة برس – الدرر السنية
ومن الأدِلَّةِ على وُجوبِ تَعزيرِه وتَوقيرِه وتَعظيمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قَولُ الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8، 9].
عن الضَّحَّاكِ في قَولِه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] قال: (كُلُّ هذا تعظيمٌ وإجلالٌ) .
وعن قَتادةَ في قَولِه: وَتُعَزِّرُوهُ [الفتح: 9] قال: (يَنصُروه، وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] : أي: لِيُعَظِّموه) .
قال ابنُ جرير: (معنى التعزيرِ في هذا الموضِعِ: التَّقويةُ بالنُّصرةِ والمَعُونةِ، ولا يكونُ ذلك إلَّا بالطَّاعةِ والتَّعظيمِ والإجلالِ) .
وقال السَّعديُّ: (الحُقوقُ ثَلاثةٌ: حَقٌّ لله تعالى لا يكونُ لأحَدٍ مِنَ الخَلْقِ، وهو عِبادةُ اللهِ والرَّغْبةُ إليه، وتوابِعُ ذلك.
وقِسمٌ مُختَصٌّ بالرَّسولِ، وهو التَّعزيرُ والتَّوقيرُ والنُّصرةُ.
وقِسمٌ مُشتَركٌ، وهو الإيمانُ باللهِ ورَسولِه ومحَبَّتُهما وطاعتُهما، كما جَمَع اللهُ بيْن هذه الحُقوقِ في قَولِه: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9] فمَنْ أطاع الرَّسُولَ فقد أطاع اللهَ، وله مِنَ الثَّوابِ والخَيرِ ما رُتِّب على طاعةِ اللهِ) .
وقال اللهُ سُبحانَه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] .
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما في قَولِه تعالى: وَعَزَّرُوهُ [الأعراف: 157] قال: (حَمَوه ووقَّرَوه) .
قال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ أي: عَظَّموه ووقَّرُوه، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي: القُرْآنَ والوَحيَ الذي جاء به مُبلِّغًا إلى النَّاسِ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: في الدُّنيا والآخِرةِ) .
إنَّ تعظيمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإجلالَه وتوقيرَه: مِن شُعَبِ الإيمانِ العظيمةِ التي تفوقُ مَنزِلةَ المَحَبَّةِ؛ فليس كُلُّ مُحِبٍّ مُعَظِّمًا، فالوالِدُ يحِبُّ وَلَدَه، فيدعوه ذلك إلى تكريمِه لا تعظيمِه، والولَدُ يحِبُّ والِدَه، فيَجمَعُ له بيْن التَّكريمِ والتَّعظيمِ، والسَّيِّدُ قد يحِبُ مماليكَه، ولكِنَّه لا يُعَظِّمُهم، والمماليكُ يُعَظِّمونَ ساداتِهم، وقد يُحِبُّونَهم أو يُبغِضونَهم.
وحقوقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجَلُّ وأعظَمُ وأكرَمُ، وألزَمُ وأوجَبُ مِن حُقوقِ السَّاداتِ على مماليكِهم، والآباءِ على أولادِهم؛ فاللهُ تعالى يُنقِذُ به مِنَ النَّارِ في الآخِرةِ، ويَعصِمُ بالإيمانِ به الأرواحَ والأبدانَ والأعراضَ، والأموالَ والأهلِينَ والأولادَ في الدُّنيا، وقد توعَّد اللهُ على مَعصيتِه بالنَّارِ، ووَعَد باتِّباعِه الجَنَّةَ، فرُتبتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عظيمةٌ، ودَرَجتُه عاليةٌ رفيعةٌ؛ فحَقٌّ علينا أن نحِبَّه ونُجِلَّه ونُعَظِّمَه .
وفي القُرْآنِ الكريمِ آياتٌ كثيرةٌ تؤكِّدُ هذا الحَقَّ، ومن ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب: 57] .
أي: إنَّ الذين يُؤذُونَ اللهَ بالكُفرِ، أو بنِسبةِ الصَّاحِبةِ والوَلَدِ والشَّريكِ إليه، أو وَصْفِه بما لا يليقُ به، أو بالإصرارِ على مَعصيتِه أو بغيرِ ذلك؛ ويؤذونَ رَسولَه مُحمَّدًا بالقَول أو الفِعلِ- أبعَدَهم اللهُ وطرَدَهم مِن رحمتِه في الدُّنيا وفي الآخِرةِ، وأعدَّ لهم عَذابًا يُهينُهم؛ جزاءً لهم على إيذائِهم اللهَ ورَسولَه.
ففي هذه الآيةِ أنَّ أذيَّةَ الرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليست كأذيَّةِ غَيرِه؛ فالعَبدُ لا يُؤمِنُ باللهِ حتَّى يُؤْمِنَ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِن لوازمِ هذا الإيمانِ تعظيمُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا يقتضي ألَّا يكونَ مثلَ غيرِه في المعامَلةِ .
وفي هذه الآيةِ قَرَن اللهُ تعالى أذاه بأذى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن آذاه فقد آذى اللهَ تعالى.
وأيضًا فَرَّق اللهُ تعالى بيْن أذى اللِه ورَسولِه وبين أذى المؤمِنينَ والمؤمِناتِ في الآيةِ التَّاليةِ، فقال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58] ، فجعل على هذا أنَّه قد احتَمَل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وجَعَل على أذى اللهِ ورَسولِه اللَّعنةَ في الدُّنيا والآخِرةِ، والعَذابَ المُهِينَ .
قال ابنُ كثيرٍ: (قال العوفي عنِ ابنِ عَبَّاسٍ في قَولِه: يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] : نَزَلت في الذين طَعَنوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تزويجِه صَفِيَّةَ بِنتَ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ.
والظَّاهِرُ أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في كُلِّ مَن آذاه بشَيءٍ، ومَن آذاه فقد آذى اللهَ، ومن أطاعه فقد أطاعَ اللهَ) .
وقال السَّعدي: (لَمَّا أمَرَ تعالى بتعظيمِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصَّلاةِ والسَّلامِ عليه، نهى عن أذيَّتِه، وتوَعَّدَ عليها، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] ، وهذا يَشمَلُ كُلَّ أذِيَّةٍ قَوليَّةٍ أو فِعْليَّةٍ؛ مِن سَبٍّ وشَتمٍ، أو تَنقُّصٍ له أو لدِينِه، أو ما يعودُ إليه بالأذى. لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب: 57] أي: أبعَدَهم وطَرَدَهم، ومِن لَعْنِهم في الدُّنيا أنَّه يحَتَّمُ قَتْلُ مَن شَتَم الرَّسولَ وآذاه. وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب: 57] جزاءً له على أذاه؛ أن يُؤذَى بالعذابِ الأليمِ، فأَذِيَّةُ الرَّسولِ ليست كأذِيَّةِ غَيرِه؛ لأنَّه لا يؤمِنُ العَبدُ باللهِ، حتَّى يؤمِنَ برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وله مِنَ التَّعظيمِ الذي هو من لوازمِ الإيمانِ ما يقتضي ذلك؛ ألَّا يكونَ مِثلَ غَيرِه) .
2- قال اللهُ سُبحانَه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] .
عن الضَّحَّاكِ في قَولِه تعالى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] قال: (هو كقَولِه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] ، نهاهم اللهُ أن ينادوه كما ينادي بَعضُهم بعضًا، وأمَرَهم أن يُشَرِّفوه ويُعَظِّموه، ويَدْعوه إذا دَعَوه باسمِ النبُوَّةِ) .
قال السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] أي: لا تقولوا: يا محمَّدُ، يا أبا القاسِمِ، يا ابنَ عَبدِ اللهِ، ولكِنْ قُولُوا: يا أيُّها الرَّسولُ، يا أيُّها النَّبيُّ، يا رَسولَ اللهِ، وادْعُوه على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (خَصَّ اللهُ نبيَّه في هذه الآيةِ بالمُخاطَبةِ بما يَليقُ به، فنهى أن يقولوا: يا محمَّدُ، أو يا أحمَدُ، أو يا أبا القاسِمِ، ولكِنْ يقولوا: يا رَسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ، وكيف لا يخاطِبونَه بذلك، واللهُ سُبحانَه أكرَمَه في مُخاطبتِه إيَّاه بما لم يُكرِمْ به أحدًا مِنَ الأنبياءِ، فلم يَدْعُه باسمِه في القُرْآنِ قَطُّ؟) .
وقال أيضًا: (إذا كنَّا في بابِ العِبارةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علينا أن نُفَرِّقَ بين مخاطبتِه والإخبارِ عنه؛ فإذا خاطَبْناه كان علينا أن نتأدَّبَ بآدابِ اللهِ تعالى... فلا تقولُ: يا محمَّدُ، يا أحمَدُ، كما يدعو بعضُنا بعضًا، بل نقولُ: يا رسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ... وأمَّا إذا كنَّا في مقامِ الإخبارِ عنه، قُلْنا: (أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ)، وقُلْنا: محمَّدٌ رَسولُ اللهِ، وخاتَمُ النبيِّينَ، فنخبِرُ عنه باسمِه، كما أخبَرَ الله سُبحانَه... مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ... فالفَرقُ بيْن مقامِ المُخاطَبةِ ومَقامِ الإخبارِ فَرقٌ ثابتٌ بالشَّرعِ والعَقلِ) .
وقال ابنُ كثيرٍ: (قال الضَّحَّاكُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: كانوا يقولونَ: يا محمَّدُ، يا أبا القاسِمِ، فنهاهم اللهُ عزَّ وجَلَّ عن ذلك؛ إعظامًا لنبِيِّه، صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، قال: فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ. وهكذا قال مجاهِدٌ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ.
وقال قَتادةُ: أمَرَ اللهُ أن يُهابَ نَبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأن يُبجَّلَ، وأن يُعَظَّم وأن يُسوَّدَ. وقال مقاتِلُ بنُ حَيَّانَ، في قَولِه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] يقول: لا تُسَمُّوه إذا دَعَوتُموه: يا محمَّدُ، ولا تقولوا: يا بنَ عَبدِ اللهِ، ولكِنْ شَرِّفوه فقولوا: يا نبيَّ اللهِ، يا رَسولَ اللهِ.
وقال مالِكٌ عن زَيدِ بنِ أسلَمَ في قَولِه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] قال: أمَرَهم اللهُ أن يُشَرِّفوه.
هذا قَولٌ. وهو الظَّاهِرُ مِنَ السِّياقِ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة: 104] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إلى قَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 2-5] ، فهذا كُلُّه مِن بابِ الأدَبِ في مُخاطَبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والكَلامِ معه وعِندَه كما أُمِروا بتقديمِ الصَّدَقةِ قَبْلَ مُناجاتِه.
والقَولُ الثَّاني في ذلك أنَّ المعنى في: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] أي: لا تَعتَقِدوا أنَّ دُعاءَه على غَيرِه كدُعاءِ غَيرِه، فإنَّ دُعاءَه مُستجابٌ؛ فاحْذَروا أن يدعوَ عليكم فتَهلِكوا. حكاه ابنُ أبي حاتمٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، والحَسَنِ البَصْريِّ، وعَطِيَّةَ العوفيِّ. واللهُ أعلَمُ) .
وقال السَّعديُّ: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] أي: لا تَجعَلوا دُعاءَ الرَّسُولِ إيَّاكم ودُعاءَكم للرَّسولِ كدُعاءِ بعضِكم بَعضًا، فإذا دعاكم فأجيبوه وُجوبًا، حتَّى إنَّه تَجِبُ إجابةُ الرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حالِ الصَّلاةِ، وليس أحَدٌ إذا قال قولًا يَجِبُ على الأُمَّةِ قَبولُ قَولِه والعَمَلُ به، إلَّا الرَّسولُ؛ لعِصْمتِه، وكَونِنا مخاطَبينَ باتِّباعِه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ، وكذلك لا تَجعَلوا دُعاءَكم للرَّسولِ كدُعاءِ بَعضِكم بَعضًا، فلا تقولوا: يا محمَّدُ، عِنْدَ ندائِكم، أو يا محمَّدُ بنَ عَبدِ اللهِ، كما يقولُ ذلك بعضُكم لبعضٍ، بل مِن شَرَفِه وفَضْلِه وتمَيُّزِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن غيرِه؛ أن يُقالَ: يا رَسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ) .
3- قال اللهُ سُبحانَه: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: 120] .
أي: ما كان ينبغي للمُسلِمينَ مِن سُكَّانِ المدينةِ النَّبَويَّةِ ومَن حولَهم مِن سُكَّانِ البَوادي أنْ يتخَلَّفوا عن الخُروجِ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةِ تَبوكَ، وما كان ينبغي لهم أن يتَرَفَّعوا بأنفُسِهم عن نَفسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صُحبَتِه في الجِهادِ، ويَرضَوا لأنفُسِهم بالرَّاحةِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تعَبٍ ومَشقَّةٍ.
فدَلَّت هذه الآيةُ الكريمةُ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَولَى بالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهم، كما قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] ، وأنَّ على كلِّ مُسلِمٍ أن يَفدِيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِنَفسِه، ويُقَدِّمَه عليها .
قال الحليميُّ: (في هذا أعظَمُ البَيانِ لِمَن عَقَل، وأبيَنُ الدَّلالةِ على وُجوبِ تَعظيمِه وإجلالِه وتَوقيرِه) .
وقال السَّعديُّ: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَولى بالمؤمِنينَ مِن أنفُسِهم؛ فعلى كُلِّ مُسلِمٍ أن يَفدِيَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنَفْسِه، ويُقَدِّمَه عليها، فعَلامةُ تَعظيمِ الرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومحبَّتِه والإيمانِ التَّامِّ به: ألَّا يتخَلَّفوا عنه) .
4- قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] .
جاءت هذه الآيةُ الكريمةُ عَقِبَ أحكامِ مُعامَلةِ أزواجِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إيماءً إلى أنَّ تلك الأحكامَ داخِلةٌ في مَقامِ تَعظيمِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ لأزواجِه مِن ذلك التَّشريفِ حظًّا عظيمًا؛ ولذلك كانتْ صِيغَةُ الصَّلاةِ عليه الَّتي علَّمَها للمُسلمينَ مُشتَمِلةً على ذِكرِ أزواجِه، كما أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حذَّر المؤمِنينَ مِن كُلِّ ما يُؤذي رَسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أعقَبَ ذلك بما هو أكبَرُ مِنه، وهو: أن يُصَلُّوا عليه ويُسَلِّموا، وذلك داخِلٌ في إكرامِهم الرَّسُولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما بيْنهم وبيْن ربِّهم.
فأخبَرَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ عِبادَه بثَنائِه على نَبيِّه في الملأِ الأعلى، وثناءِ مَلائِكتِه عليه ودُعائِهم له، وأمَرَهم أن يدْعُوا اللهَ بأن يصلِّيَ على نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَرَهم بأن يحيُّوه بتحيَّةِ الإسلامِ فيَقولوا: السَّلامُ عليك -أيُّها النبيُّ- ورحمةُ اللهِ وبركاتُه .
قال ابنُ كثيرٍ: (المقصودُ مِن هذه الآيةِ: أنَّ اللهَ سُبحانَه أخبَرَ عِبادَه بمنزلةِ عَبدِه ونَبيِّه عِندَه في الملَأِ الأعلى، بأنَّه يُثني عليه عِنْدَ الملائِكةِ المقَرَّبينَ، وأنَّ الملائِكةَ تُصَلِّي عليه، ثمَّ أمَرَ تعالى أهلَ العالَمِ السُّفليِّ بالصَّلاةِ والتَّسليمِ عليه؛ ليَجتَمِعَ الثَّناءُ عليه من أهلِ العالَمينَ؛ العُلويِّ والسُّفليِّ جَميعًا) .
وقال السَّعديُّ: (هذا فيه تنبيهٌ على كَمالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورِفعةِ دَرَجتِه، وعُلُوِّ مَنزِلتِه عِنْد اللهِ وعِندَ خَلْقِه، ورَفْعِ ذِكْرِه. و إِنَّ اللَّهَ تعالى وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عليه، أي: يُثني اللهُ عليه بيْن الملائكةِ، وفي الملأِ الأعلى؛ لمحبَّتِه تعالى له، وتُثني عليه الملائِكةُ المقَرَّبونَ، ويَدْعُونَ له ويتضَرَّعونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] ؛ اقتِداءً باللهِ ومَلائكتِه، وجزاءً له على بَعضِ حُقوقِه عليكم، وتكميلًا لإيمانِكم، وتعظيمًا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَحَبَّةً وإكرامًا، وزيادةً في حَسَناتِكم، وتكفيرًا من سَيِّئاتِكم) .
وعن أبي حُمَيدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّهم قالوا: يا رَسولُ اللهِ كيف نصَلِّي عليك؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه، كما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وأزواجِه وذُرِّيَّتِه، كما باركْتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حميدٌ مَجيدٌ)) .
قال ابنُ أبي يَعْلَى في بيانِ تَعظيمِ اللهِ سُبحانَه لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووجوبِ تَعظيمِ الأُمَّةِ له: (توعَّد مَن رَفَع صَوْتَه على نبيِّه بذَهابِ عَمَلِه وبُطلانِه، فقال عزَّ وجَلَّ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] ، وأدَّبَهم في محاورِة نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخِطابِه، فقال: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] لا تقولوا: يا أحمَدُ، يا محمَّدُ، يا أبا القاسِمِ، أي: قولوا: يا رَسولَ اللهِ، ويا نَبيَّ اللهِ، كما قال عزَّ وجَلَّ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: 9] ، فأمَرَهم بتعظيمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما عَظَّمَه وشَرَّفَه في خِطابِه على سائِرِ أنبيائِه، فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] ، وخاطَبَ الأنبياءَ بأسمائِهم: يَا آدَمُ، يَا نُوحُ، يَا إِبْرَاهِيمُ، يَا مُوسَى، يَا عِيسَى.
وقال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ، فأقام أمْرَه ونَهْيَه مَقامَ القُرْآنِ ونَهْيِه.
وجَمَع له بيْن صِفَتَينِ مِن صِفاتِه، فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
ولم يُقسِمْ لأحَدٍ بالرِّسالةِ إلَّا له، فقال: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس:1-4] ، وقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] .
وقال في حَقِّ إبراهيمَ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشّعراء: 87] ، فأجابه إلى ذلك، وابتدأ به نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غيرِ سُؤالٍ، فقال: يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] .
وقال موسى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] ، فأجابه اللهُ إلى ذلك فقال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36] ، وقال لنبِيِّنا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] .
وغَفَر ذَنْبَه مع سَتْرِه، وغَفَر ذَنبِ غَيرِه مع ظُهورِه، فقال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ [طه: 121، 122]، وقال في داودَ: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص: 24، 25] وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ إلى قَولِه: ثُمَّ أنابَ [ص: 34]، وقال: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا إلى قَولِه: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء: 87، 88]، وقال لنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح: 2]، ولم يذكُرْ ذلك الذَّنْبَ، وقال: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 2، 3] ولم يذكُرِ الوِزْرَ) .