من نكد الدنيا...

2018-03-12 08:19

 

صنعاء مدينة التاريخ.. يلازمها في الشكل العام وفي التفاصيل، يملؤها وتملؤه وكأنها قلعته الآخيرة. يظهر في المعمار وفي الأسفار، في ضجر الطوب وفي دهشة القمريات وهي تتصفح ظلال الماضي. يتجول بحيوية في أزقة المدينة القديمة التي تبدو للزائرين كأنها مسرح الأساطير.. تختزن أرواح ربّات الأقدار، ينهضن من كل مجثم، حتى على وقع "تشعيبة" أحمد ياجنّاه بإيقاعها المعاصر. ثم يتبدد أمام نيون الواجهات المُضاءة في الأحياء الجديدة.

 

صنعاء التاريخية لا تحتمل حروب شوارع طويلة وضارية، بل وتكاد أحياؤها العتيقة لا تقوى على دمدمة الرعود الصيفية وسخط السحب حين تصبح كثيفة وداكنة، ولهذا من الصعب على كل من يعرف في شأن الجغرافيا أن يتوقع بقاء أهلها في ديارهم يوماً واحدا إذا ولّعت الدنيا في محيطها.

وبعد أن أحكم الحوثيون القبضة عليها منفردين منذ ديسمبر الماضي لم تعد هناك جيوش متعددة الولاءات، ولم يتبق من منافسهم القوي "الرئيس السابق الراحل" سوى بعض الحِداد التويتري والحسرات التي يطلقها مؤيدوه على منصات التواصل الاجتماعي. أي أن صنعاء بغض النظر عن وضعها السياسي، مدينة لا يتنازعها فرقاء، خاصة وان خطوط التماس مع "قوات الشرعية" تبعد عنها مئة عام من السفر، استناداً إلى أداء عسكر "التباب النهمية" التي أصبحت معلماً ربما الأشهر غموضاً في طوبوغرافيا الحروب.

 

استطاع الحوثيون أن يتخلصوا من حليفهم القوي بعد أن راهنت دول التحالف العربي على استمالته يوماً ما لتغيير الموازين... وأصبحت صنعاء وأخواتها من مدن المرتفعات اليمنية الحصينة الوعرة، شديدة الكثافة السكانية، "حوثية صرفة" أي في قبضة مَن تشكّل التحالف العربي لضربهم أو إضعافهم.

 

تلك حقيقة قاسية لا يجب تجاوزها و إغفالها إذ لم يقابلها في الجبهات البعيدة بعد إنجازات 2015, سوى حالات متواضعة قياساً بالمهمة الشاملة المعقدة، وهو ما يطرح أسئلة دون إجابة حقيقية حول أداء ونوايا المحاربين! وحين يكشف عنها المستقبل تصبح في قائمة الدروس التاريخية المتكررة في بلد العجائب.

 

لم تتبق سوى حالات غريبة من المواجهات تستنزف دماء الشباب الفقراء وتهلك البشر جوعاً ومرضاً واكتئابًا، دون نهاية مقروءة أو مُتخيَّلة، بينما تنشغل النخب الحاكمة من الطرفين وعلى الجبهتين باسواق المشتقات وتجارة الأسلحة وتصريف الموارد ورفد الخزائن الخاصة وغسيل الأموال والسباق نحو الثراء اللامحدود والسيطرة على ما يمكن من الأرض.

 

المملكة السعودية، من ناحيتها وبعد ثلاث سنوات حرب، ما تزال تختبر التزامات حزب الإصلاح، كما جاء في حديث ولي العهد السعودي والذي أكد أيضاً أن نهاية الحرب قريبة.

ربما من حسن ظن الرجل : أن حزب الاصلاح أصبح هو الشرعية جيشاً وحكومةً وإدارةً وسياسةً وإعلاماً.. الخ، ويسعى للمزيد، حتى وإن ابتلاه "المزيد" بعسر قاتل في الهضم. ليس هذا فقط بل أن من يخالف إرادته يُعتبر في قاموسه خارج القانون وخارج الشرعية وخارج الدولة المفترضة. كأنَّ لا قضية في اليمن سوى قضيته وحده لا شريك له. استحوذ على "السلطة" ولم يساعدها على أن تتسع للآخرين وتقدم نموذجاً متميزاً في المناطق المحررة… ليصبح بذلك "حارس التناحة" الأول بين تنظيمات الإخوان العالمية.

 

بعد كل ذلك وما يزال الإصلاح من وجهة نظر المملكة السعودية قيد الاختبار والتجربة!!!

وهنا أيها القارئ الحصيف جداً لا لوم عليك إنْ احتجت إلى صعق كهربائي لتحفيز مخّك كي تتخيل كيف لو نجح الإصلاح في الاختبار؟؟ سؤال مخيف وإجابته لا أحد يفهمها.. وذلك من نكد الدنيا!!

 

الحقيقة الكاشفة أن هناك صراعات، هي الأقوى، تتفاعل "خارج الخارطة المعلنة" وقابلة لأن تتجاوز في أي لحظة حالة تقاطع المصالح السائدة بين أطراف تدعي أنها تواجه عدو واحد.

وربما تلك هي القضية التي سوف تستأثر، في القريب جداً، اهتمام الإقليم والعالم.

 

وحين تدرك دول التحالف أن الأمر قد توقف عند نقطة لا نقطة بعدها، سوف يعود الشمال إلى الشمال لينظر في أمره، ويعود الإخوان إلى سادة الحوثية لينجزا وثيقة منقحة للسلم والشراكة ويتعايشا إلى حين، حتى تستتب قواعد اللعبة الجديدة لديهما وسيقبل الشعب اليمني (الشمال) بحالة تعايش بين الخصمين وإدارة صراعاتهما الدينية والأيديولوجية بلا بواريد. خاصة والإخوان المسلمون لديهم تاريخ حافل بالتقلبات والتحالفات المتبدلة، والمقدرة على التعايش مع كل الأوضاع. كما أن الشمال لديه خبرة في تفيعل دينامياته التقليدية عند الضرورة لإدخال تحسينات سياسية على الأمر الواقع في كل دورة زمنية كي تعود الحياة إلى سابق فطرتها القديمة مع اختلاف المسميات.

 

أي أن هناك مرجعيات وأعراف ومصالح مشتركة إن تم تحريكها سيجتمع الشامي على المغربي في توليفة صدّرها لنا التاريخ غير مرة، حتى وإن صفي الأمر على البنّائين والقطبيين من جهة وعلى الشيرازيين والخمينيين من جهة أخرى وقليل من "خلطة" الأحزاب المُستضعفة.

تلك خاصية يتمتع بها أخوة الصراع حين يشتد صراع الأخوة في بلد تفهم قواه الفاعلة كيف تديره من خلال مناهج الحوكمة المتوارثة بآليات ما قبل الدولة.. ضداً على ما يتوقعه المحللون بمساطر العلوم السياسية.

 

*- كاتب سياسي جنوبي وخبير نفي – كندا