تقرير : حسين أبوبكر المحضار شاعر وفنّان لا تمسّه يد النسيان

2017-02-08 04:18
تقرير : حسين أبوبكر المحضار شاعر وفنّان لا تمسّه يد النسيان
شبوه برس - خاص - الشحر

 

حسين أبوبكر المحضار المولود في مدينة الشحر بحضرموت سنة 1930م , مرة , يُولد بعدها مرّات ومرّات في قلوبنا وعقولنا , وعلى ألسنتنا شعرا وفنّا وأحاسيس ..

المحضار الشاعر والفنان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ؛ فهو بحق ذلك الشاعر والفنان المتجاوز ؛ فقد تجاوز بشعره وفنّه , زمانه ومكانه إلى أزمنة وأمكنة لا تزال تتقاطر علينا مطراً من جماليات ورؤى ..

 

فمن حيث هو شاعر , فقد التقط اللحظة ووثَّقها – لا كما هي – وإنما توثيقاً يمتدُّ بها عمراً من فاعلية وتأثير .. ومن حيث هو فنان فهو ذلك الملحّن الذي رسم بأغانيه وألحانها وإيقاعاتها خارطة حضرموت الفنية إن صحّ التوصيف , وإن لم يصح فحسين المحضار كان حضرموت كلها كمعطى شعري ولحني , ولكنه كان نفسه في أسلوبه وطريقة تناوله ..

 

لأجل كلِّ ذلك ولأشياء قد لا ندركها الآن يظلُّ المحضار حاضراً كأكثر مما كان دائماً , ولأن ذكرى وفاته تطلُّ علينا بسنتها السابعة عشرة , نقدّم لقارئنا العزيز هذا التقرير عن المحضار شاعرا وفنانا , والذي نحاول من خلاله تسليط الضوء على كثير من القضايا المهملة والمهمة التي قد يثيرها منجز المحضار الشعري واللحني والمسرحي ... إلخ  

 

المحضار يستوعب حضرموت بتنوّعاتها البيئية :

المحضار شاعر بيئته الحضرمية , لم يتخذها صنماً يُعبد إنما اتخذها وسيطاً أميناً ومعطىً ضخماً لتشكيل رؤاه ونقلها إلى الجمهور , ولخلق مواقف تجاه قضايا وطنه وأمته , ولم يختزل المحضار ذلك في لون محدد من ألوان حضرموت بل كان متنوعا وثريا ثراء حضرموت وتنوّعها الثقافي وبهذا يعتبره الدكتور عبدالعزيز بن عقيل (الوحيد الذي هضم تنوعات البيئة الحضرمية في شعره بمصطلحات واديها وساحلها ومختلف حِرَفها ومِهنها وعاداتها وتقاليدها , لبدوها وحضرها الساحلي والداخلي ) وهو في نظر الدكتور بن عقيل : ( المثقّف الملمُّ بثقافة حضرموت وتنوّعاتها ) وتأكيدا لما ذهب إليه الدكتور بن عقيل يقول الشاعر الشاب فيصل العجيلي : (وجد ثراءً في التراث .. شعر اللهجة الحضرمية .. فنون اللهجة من غناء متعدد الإيقاعات وغيره  وكل ذلك كان خاما. )

إلّا أن العجيلي يرى بأنّ هنالك شيئا كان ينقص هذا التنوّع وهذا الثراء وهو ما سمّاه بالجدّة إذ يقول : (وبالمقابل وجد إملاقا في الجدِّة ) , ويضيف الدكتور بن عقيل : ( وإن من أهمِّ المشكِّلات الثقافية للمحضار , تلك الثروة الهائلة من الألحان الشعبية لمختلف الشرائح , والمناطق , والجنسين , التي اختزنتها ذاكرته فطريَّا بأحاسيس فنان منذ الصغر )

ويؤكد كل ما قيل الأستاذ والباحث الشاعر صالح سالم عميّر بقوله : ( المحضار استوعب كل التراث الفني وكل اللهجات والمفردات , وبعد أن هضم الموروث الحضرمي الغنائي والشعري واستفاد كثيرا من الدان في الوادي تابع مستور وبن مرزوق وحداد وعايض والتوي علاوة على فنون الساحل المختلفة فهو فنان كبير قبل أن يكون شاعرا غنائيا كبيرا أضاف وابتكر وجدد وأبدع بغزارة في كل الألوان الفنية )  

 

ملامح الروح الصوفية في شعر المحضار :

لعلَّ من أهم ما أثاره شعر المحضار , تلك المفردات الصوفيّة المتناثرة في تلافيف قصائدة كاشفةً عن ملامح روح صوفيَّة , أو تلك الرؤى الصوفيَّة الكشفية التي تبطّن بعض قصائده كاشفة عن تلك الروح أيضا , وعن هذه القضيّة يعلّل الدكتور عبدالعزيز بن عقيل وجود هذه الروح بأننا : ( قد نجد ملامح كثيرة للروح الصوفية في شعره , بسبب التربية الروحية للسادة , وبحكم البيئة في الشحر التي يغلب عليها طابع السلوك الديني المستقىَ من التعاليم الصوفية , حتى ولو لم يكن الشخص من المعتقدين في الأولياء والكرامات وما إليها ) , بينما اعتقد الباحث الأستاذ عبدالله حدَّاد : ( أنه يتبع أهله وفئته في مسلك التصوُّف واتخذ الشعر الأغنية ؛ لبثِّ ما في رأسه من أفكار) , فيما حدَّد الناقد الدكتور سعيد الجريري تلك الصوفيَّة بما عبَّر عنه بالصوفيَّة السلوكيّة التي ارتشفَها المحضار إذ يقول : ( المحضار ارتشف الصوفية ، فلا عجب أن تتجلى في شعره، كما في قيمه. وتلك هي صوفية سلوكية ممتدة في الأخلاقيات الإيجابية في حضرموت، وشواهدها في الأحياء والأشعار ماثلة. )  

 

المحضار بين الغناء والشعر:

الشعر والغناء عجينة خُلقت منها عوالم جمالية سكنتْنا وملأتنا من امرئ القيس إلى المحضار ومن بعده , وقديماً كانت العرب تقرن الشعر بالغناء حتى أنجبتْ الحداثةُ من لدنها فكرة استقلالية الشعر , ولعلّ المحضار كان بين منزلتين لا تعلو إحداهما الأخرى ولا تفضلها بقدر ما تأخذ بيدها وتعتجن معها مشكّلة هذه القيمة الجمالية العالية ( فهو كائن شعري، غناء وقصيدا و داناً ,  ومحضاراً أيضاً ) على حدِّ وصف الدكتور الجريري , ويمزج الفنان القدير سعيد الخنبشي بين الاثنين في الشعر الغنائي الذي نجد المحضار كلَّما ذُكِر, حيث يقول الفنان الخنبشي : (عندما يذكر اسم المحضار, يحضر الشعر الغنائي , يحضر الفن الراقي , وعندما تقرأ شعر المحضار , تحس بكلمات المحضار تخاطبك بلحنٍ جميلٍ يدغدغ مشاعر المتلقِّي ؛ لهذا أقول : إنَّ المحضار حيثما وُجِد الشعر الغنائيُّ ) واعتبر الشاعر صالح عميّر أنَّ تلك الثنائية هي سر عبقرية المحضار إذ يقول عميّر : ( المحضار عبقرية فذة لا تتكرر إلا بعد كل مائة عام كما يقال , وموهبته لا تكمن في نظم الشعر الغنائي وحسب , ولكن في صياغة الألحان المذهلة أيضا ..)  ويضيف عميّر : ( إنَّ المحضار يذكرنا بسيد درويش وصلاح جاهين والأبنودي ونجم , بيد أنه تفوّق عليهم باعتباره الشاعر والملحن في آنٍ )

 

الصورة الشعرية عند المحضار ومواجهة السائد المكرور :

إنَّ من أهمِّ البُنى الشعرية التي اعتمد عليها المحضار في الكتابة الشعرية , الصورة الشعرية , وكان المحضار – إلى جانب كونه مجدداً في اللحن – مجددا أيضا في تركيب وخلق الصورة الشعرية التي وإن بدتْ عفوية , احتملت في طيّاتها غابات من الدلالات والمعاني , ويرى الدكتور الجريري بأن المحضار ارتقى جماليا ببنائه للصورة الكلية ومن حديثه بهذا الصدد : (ميزة المحضار في تصوري التي ارتقى بها جماليا أنه تجاوز تشكيل الصور الجزئية المتجاورة - التي ليس بالضرورة أن تكون منسجمة عضويا - إلى بناء الصورة الكلية المتشكلة في النص (الأغاني تحديدا). ولذا فهو متجاوز ، ويبدو متجاوزا أيضا إذا رأينا أن هذا الوعي الفني الذي انماز به المحضار لم يصل بعد إلى شعراء مازالوا يسعون بيننا، ويحبون المحضار كثيرا، لكنهم لا ينشغلون بهاجس تجاوز المحضار نفسه الذي لم يكن نسخة من أساتذته الشعريين.) , وأشار الناقد الدكتور عبدالقادر باعيسى إلى كثافة الصورة عنده , واختزالها لكثير من المعاني كغيره من الشعراء واستدعى إليوت الذي يقول بأن الطير معادل موضوعي للشاعر حيث يتفق معه الدكتور باعيسى في ذلك ليواصل باعيسى حديثه : (والمعادل الموضوعي يتحمل بصورة كلية كاملة , فيها الشوق وفيها حركة الهفو إلى العش وفيها الجناحين بسعادة في فضاء الوادي، وفيها الانطلاق من فوق أشجاره , وفيها رفرفة الجناحين بسعادة بالغة , وفيها الزقزقة , وحركة الغزل,  وإطعام الصغار ... إلخ 

بمعنى أن الصورة مكثفة ومختزلة لكثير من المعاني وإن قلت كلماتها. )

 

ولأنّ الحديث عن الصورة يقودنا إلى الرمز والرمز بدوره يقودنا إلى الحديث عن أنثى المحضار , فهل كانت أنثى المحضار صورة شعرية أم كانت رمزاً ؟ إلا أننا نجد أن لدى الكاتب والروائي عمّار باطويل رأي آخر إذ يقول مستفيضا في هذا الشأن : ( فالأنثى المحضارية تتبلور في شعره , ومن خلالها نجد الأرض التي يعشقها وعاش فيها ، وهذه الأرض  ليست  مسقط رأسه الشحر فقط ، بل ينتقل بنا إلى أوطان أخرى عاش فيها الشاعر وأحبها كما يحب وطنه الأول.  فالمحضار عميق في حبه وعشقه ، ومن هنا أي الأرض (الأنثى) التي احتوت الشاعر، أنطلق إلى المرأة (الأنثى) التي تغنى بها في أكثر من قصيدة ، فنجد المرأة في شعر المحضار امرأة إنسانة من لحم ودم تشعر بالحياة، وتشعر بما يدور حولها بل جعلها كائناً جذاباً تستحق الحياة، والعطف ، والمحبة، ولم يتجاوزها الشاعر ولم يجعلها كائناً جامداً،  بل عزَّز من مكانتها التي تجعلها أنثى بمعناها الحقيقي، ومن يتجاوز الأنثى تتجاوزه الحياة. )

 

المحضار لم يمت ولن تتم إحالته إلى متحف :

يقول الشاعر المصري أحمد شوقي رحمه الله : " اختر لنفسكَ بعد موتك ذكرها × فالذكر للإنسان عُمُرٌ ثاني "  

والشاعر المحضار ( صورةٌ من صور الخلود الشعري , الذي رسمته طاقاته الإبداعية في سطور مذكرات قلوب كل من وقف على شيء من شعره بماء من ذهب , لا يمحى أو يزول ) على حد تعبير الناقد الأستاذ الدكتور عبدالله حسين البار في كتابه الموسوم بــ ( شعر المحضار النشيد والفن ) , فالمحضار إذن لم يمت بعد بل : (مات كل من لم يعرف قيمته ومكانته ومنزلته ولم يعطه حقه من مسؤولي ذلك الزمان معنويا وماديا عندما كان يلمح تارة ويصرح تارة أخرى بما يتحمله من قهر وضيم وظلم سيظل حيا , والموت للصوص ولكل أناني وانتهازي وجاهل ! ) بهذا الكلام أطلق الأستاذ الشاعر صالح عميّر صوته النافذ إلى قلوبنا , بينما اعتبر الدكتور عبدالقادر باعيسى أن : ( المحضار لم يحيَ حياته الخاصة به بعد , حتى نتحدث عن موته ، أعني أن شعره قادر على الإفضاء بقراءات متعددة وغزيرة لم تنتج بعد، وأننا ما زلنا في أول القراءات، والذي يبدو أنه نحن الذين نموت، فنظن المحضار مثلنا، وكلٌّ ينظر بعين طبعه كما يقول أبوبكر سالم في أغنيته ) مضيفا : (سيظل المحضار حيا ما بقي عشاق على وجه الأرض ، وهل مات امرؤ القيس أو جميل؟ أبدا ، فهذه القصائد هي ما تفرز فينا حياتنا وإحساسنا بأنفسنا والعالم ) , ويسند الروائي عمّار باطويل حياة المحضار الثانية إلى ما أسماه بالإلهام الذي لا يفنى إذ يحدثنا : ( المحضار انتقل من طور الحياة الأولى إلى طور الحياة الثانية التي لم يندفن فيها الشاعر، بل أصبح المحضار يلهم الأجيال الذين يعيشون حياتهم الأولى , وأيضاً سيلهم الأجيال التي سوف تخلق , فالعظماء هم الذين يلهمون الأجيال بعد انتقالهم إلى الطور الثاني أي المرحلة الثانية من الحياة، كما يفعل الشاعر المحضار في طوره الثاني من الحياة والذي يقودنا إلى إبداعه الشعري ) .

ومؤكّدا لما قاله الأساتذة يضع الدكتور الجريري المحضار في مصافِّ الخالدين شعرا وفنا , قائلاً : (انتهى الأجل وانتقل حسين أبوبكر المحضار إلى ملكوت الله، والمحضار لم يمت مثلما لم يمت امرؤ القيس وابن أبي ربيعة والمتنبي وأبو تمام والمعري وأبو نواس وابن الفارض وشوقي وباكثير  والسياب ونزار قباني والبردوني والمحضار ) ,إلا أنّ الدكتور عبدالعزيز بن عقيل في حديثه الذي يتفق مع كل ما قيل سلفا اعتبرَ أن المشكلة تكمن في أن المحضار لم يمت معبّرا عن ذلك : ( كلا لم يمت وهنا المشكلة ؛ لأنَّ من أتى بعده يحاول أن يجاريه , وهو نسيج لوحده ) . ولكنَّ المحضار مات وهذه سنّة الله في خلقه , بهذه الكلمات غصّت حنجرة الفنان القدير سعيد الخنبشي ليضيف فيما يشبه السلوى : ( ولكنه حيٌّ في قلوب محبي شعره , حيٌّ في قلوب الجمهور الذي يرى المحضار كلَّ يوم من خلال أشعاره المغنَّاة من قبل مطربي أرضه ووطنه ومطربي العالم العربي ) .

 

وعن الأثر الذي تركه المحضار أضاف الفنان الخنبشي : ( كان للمحضار أثر غير عادي  في الفن والشعر الحضرمي , ووصل به إلى خارج الحدود المحلية , ووصل بالشعر الحضرمي إلى دول الخليج والعالم العربي , بما يحويه شعره من مفردات رائعة والوصف البارع في الشعر العربي , وقد قال عنه الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي أنا أمام شاعر أعتبره من نوابغ الشعر العربي العامي والفصيح ) وعن هذا الأثر أيضا , يرفض الدكتور الجريري بقوة كلَّ المحاولات الهادفة لإحالة المحضار إلى المتحف بقوله : ( لم يترك المحضار أي أثر يذكر ؛ لأنه ما زال ماثلا وحاضرا بقوة ، ولم تتم عملية إحالته إلى المتحف. وهنا ينبغي التنويه بدور الفنانين الذين فتحوا الآفاق لكلمة المحضار كي تصل إلى أبعد مدى ، ولاسيما الشحريان سعيد عبدالنعيم ومحفوظ بن بريك ، ثم رفيق رحلته بلفقيه - متعه الله بالصحة - وعبدالرب إدريس، وفنانو حضرموت الرائعون بدءا من مرسال إلى آخر محب للمحضار ، والفنانون العرب الآخرون. ) . 

 

*- أبوبكر باجابر – شبوه برس - جولدن نيوز