مستعمرة عدن *... محاضرة لـ : هارولد إنجرمز

2015-01-20 06:42
مستعمرة عدن *... محاضرة لـ : هارولد إنجرمز

صورة مع السلطان صالح بن غالب في المكلا

شبوة برس- خاص - عدن

 

مستعمرة عدن *... محاضرة لـ : هارولد إنجرمز

 

ترجمة: كريم الحنكي ...

إن كلَّ من يراها يشدَهُهُ جَلالُ طبيعتِها، التي تشكّل –مهما بدتْ مقفرةً ومنفِّرة- إطاراً ملائماً جداً لواحدٍ من الحصون العظيمة في الجناح الشرقي من إمبراطوريتنا. وهي تخلف لدى المرء، عقب زيارتها، شعوراً بالحزن بسبب الرداءة التي تغْلِب على عمل الإنسان فيها؛ ثم يغدو ذلك الحزن مؤلماً حين يعلم المرء أن تلك الرداءة مردُّها –كُليَّةً- إلى عمل البريطانيين، وتأثيرهم .

ففي كل أنحاء اليمن والمحميتين تجدون مدناً وقرىً تستأهل مناظرها أن نلتقط لها صوراً فوتوغرافية . ولعل كثيراً منكم قد اطَّلع على كتاب الآنسة ستارك المصور مشاهدات في حضرموت Seen in the Hadhramaut.

لكن لو كنتم ممن يعرف عدن، لوافقتموني على أن الإقدام على تصويرها سوف يكون إهداراً لشريط التصوير.

بيد أن هذا الوضع لم يكن هو الحال السائدة على الدوام. وحريٌّ بنا أن نقف بعض الوقت في قراءة وصوفٍ لحالاتٍ من عدن، في عصورٍ خَلَت.

عَدَن Aden وعَـدْن Eden هما –كما قد تعلمـون- كلمـة واحـدة؛ لكنني لن أحـاول إقناعكـم بأنهـا كانـت ذات حيـن أبهـج الجنـان طُرَّا . ومـع ذلك، فـإن عَـدْن التي ذكرهـا النبي حزقيـال هي، بـلا مـراء، عدننا هذه؛ وعليه، فالأرجح أنها كانت مدينة زاهية في أيامه . فهو -إذ يناجي صور Tyre وصيدا Sidon- يدرجهـا ضمـن الأسـواق الكبيرة في العالم المعروف أوانئذٍ، والتي كانت تتاجر معهما:

"ومن المتاجرين معك أيضاً أهل حران وكنة وعدن وشبا وآشور وكلمد" .

لكننا نجهل كيف كانت تبدو عدن الأولى، التي عانت من التدمير في القرن الميلادي الأول، التي يقول عنها (كتاب) الطواف:

"… وهنـاك (يديمون) العربيـة، وهي قرية على الساحـل، تتبـع كذلك مملكة كرب إل Charibael، وبها مراسٍ موائمة، ومساقٍ أعذب وأفضل من تلـك التي في أوقليس Ocelis؛ وهـي تمتـد على مـدخـل أحد الخلجان، وينحسر البـر عنهـا… ولكـن قبــل أيامنـا هـذه بـزمـن ليـس بطويل، قام كرب إل بتدميرها".

على أن ذلك لم يحُـل دون قيـام عدنَ جديدةٍ وعظيمة . فابن بطوطة الذي زارها في القرن الثالث عشر لا يصفها وصفاً دقيقاً؛ لكنه يعطينا فكرة عن أهميتها، في الفقرة التالية:

"… الجبـال تحُفُّ بها، ولا مدخلَ إليها إلا من جـانـب واحـد؛ وهي مدينـة كبيـرة، ولا زرع بهـا، ولا شجر، ولا ماء؛ وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيـام المطـر . والمـاء على بعد منها، فربما منعته العرب، وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعوهم بالمال والثياب . وهي شديدة الحر . وهي مرسى أهل الهند . تأتي إليها المراكب العظيمة من كنبايت، وتانه، وكولم، وقالقوط، وفندراينه، والشاليات، ومنجرور، وفاكنور، وهنور، وسندابور، وغيرها . وتجار الهند ساكنون بها، وتجار مصر أيضاً" .

ولكونه عربياً، فإنه ربما لم يؤخذ بمظاهر جمالها على النحو الذي أُخِذ بها البرتغالي ديوَّرْت بربوزا Duarte Barbosa في 1518:

"… وبمرورنا، نصل إلى مدينة عدن الثرية والآهلة بالسكان، التي يملكها العرب ويصرِّف أمرها ملك عليها . ولهذه المدينة مرفأ ممتاز وفيها حركة تجارية واسعة على نحو استثنائي بسلع ذات أهمية كبيرة . وهي مدينة جميلة بها مبان عالية مشيدة بالحجر والطين؛ أسقفها مسطحة، ونوافذها طويلة ومتعددة . وهي مختطة الشوارع على نحو جيّد، ومحوطة بالأسوار والأبراج والحصون المفرَّجة الأسطح، وفاقَ النمط المتَّبع عندنا . وقد شُقَّ الجبل على الناحية التي تصلها بباقي البلاد؛ فلا سبيل إلى الخروج منها إلا عبر ذلك الممر الوحيد الذي يمكن سلوكه . وما من ناحية غيرها يمكنهم الدخول أو الخروج منها . وعلى الجانب الأعلى من الظهر الذي تستلقي عليه المدينة، ثمّة العديد من الحصون الصغيرة التي تروق الناظر بجمالها الفائق، والتي يستطيع المرء أن يراها من البحر".

كما إن فكرةً عن المكان يمكن استقاؤها من نصٍّ محفور على الخشب فـي القرن السادس عشر . وقد علّق عليه السير هنري يول Sir Henry Yule بما يلي:

"إن ذلك ليبدو ضرباً من السخف، لمن يعرف عدن في الأيام الأولى من احتلالنا خاصة؛ ولا شك أن بعض التفاصيل مبالغ فيها، غير أن الانطباع العام يتفق تمام الاتفاق مع ذلك (الانطباع) الذي نجتديه من وصف دي باروس De Barros واندره كورسالي Andres Corsali ؛ فأولهما يقول: (تؤلف المدينة، بموقعها وجانبها الظاهر من جهة البحر، منظراً جميلاً؛ إذ يبدو لك القسم الممتد منها على طول الشاطئ، بأسواره وأبراجه الرائعة، ومبانيه العامة الكثيرة، وصفوف المنازل المنتصبة عالياً بطوابقها العديدة وأسقفها المسطحة . كما تشاهد -إلى جانب كل ذلك- سلسلة الجبال التي تواجه البحر، عارضة حتى آخر ذرواتها صورة أخّاذة لعمليات الطبيعة، وكذلك صورة أخرى، أخاذة أكثر، لصنعة الإنسان) . وهذا المؤرخ يقول أن ازدهار عدن قد تنامى بوصول البرتغاليين إلى تلك البحار لأن التجار المسلمين من جدة، وموانئ البحر الأحمر الأُخر، قد تملكهم الخوف من أولئك القراصنة الغربيين، فعمدوا إلى اتخاذ عدن مركزاً تجارياً لتوزيع بضائعهم، بدلاً من (مجرد) المرور بها، كما كانوا يفعلون".

وفي الزمن الذي خُطَّ فيه الوصف التالي مما استطعت تتبعه (من الكتابات عن عدن)، كان الترك قد قاموا بتخريب البلد؛ وإن ظلت آثار من مجده السابق قائمة حتائذ . فقد كتب جون جوردِيَن John Jourdian في 1609، يقول:

" لقد كانت مدينة عدن هذه، فيما مضى، بلداً مشهوراً ومنيع التحصين؛ أما اليوم، فقد دمرها الترك وخرَّبوها. كانت فيها المباني الفائقةُ الجمال، كما يظهر من بقايا البيوت الجميلة المنهارة كليَّةً بسبب افتقارها إلى الترميم. ولا يزال في هذه المدينة الكثير من العرب المنتمين إلى الفئة الأشد فقراً، وهم لا يزيـدون عـن كونهـم مُستَخدَمين لدى الأتراك. والمدينة مسورة بحائط من الحجر، قوي جداً، وبه ثلاثة أبواب بالغة المتانة: واحد منها على الوجه الشمالي، وهو ذو قضبان من الحديد يمكنهم رفعها وإنزالها متى شاءوا؛ ويشتمل هذا الباب على بوابتين أخريين، إحداهما على مبعدة من الأخرى التي تندرج ضمن الباب الرئيس؛ وهما مصنوعتان من الخشب ومزودتان بقضبان ضخمة يمكِّنها سمكها من حمل البوابتين. أما كون هذا الباب أمنع من البابين الآخرين، فمردُّه إلى كون الوجه الذي يقوم فيه يمثل أيسر السبل لأي معتد على المدينة يريد مهاجمتها، إذ ليس لديه مدخل آخر متاح، إلا إذا انحدر إليها بعد تسنُّم الجبال، أو جاءها عبر البحر . ثمّة باب آخر تحت حصونهم الكائنة على الوجه الجنوبي، إلا أنهم يبقونه في الغالب موصداً؛ إذ لا سبيل للعامة في تلك الناحية، لأنها تؤدي إلى الجبال التي لا مسلك فيها لسالك.

ويقع ثالث تلك الأبواب في جهة البحر غرباً، بإزاء القلعة الكائنة على قمة (جبل) الجزيرة، خارج البلدة. وعلى هذه الأبواب جميعاً حرس مقيم فيها ليل نهار . تقع المدينة في واد تحف به شماريخ الجبال، عدا من جهة الشمال، حيث البوابات الثلاث؛ وتنتصب على (تلك) الجبال حصون تنتشر من حولها أبراج المراقبة؛ وثمّة حـرس نظامي ورَصَد يقيمون فيها جميعاً؛ لكن عددهم ليس كبيراً، وذلك بحكم مكمنهم في مواقع لها من شدة التحصين ما يمكّن كل رجل منهم من أن يصد عشرين رجلاً . وهذه الحصون جميعاً لا تبعد عن المدينة إلا بأقل من مرمى مدفعية فالكـون، وهي تتحكـم بالمدينـة كلها…".

كان لا يزال لعدن شيء من الروعة حتى ما بعد ذلك الزمان بمائة عام، وتحديداً في 1709، بحسب ما يمكن أن يستجمع من وصف لاروك La Rocque:

"تقبع عدن عند أقدام جبال عاليات، تكتنفها من كل ناحية تقريباً . وثمّة خمس أو ست من القلاع المدعمة بالسواتر، قائمة على رؤوس تلك الجبال؛ وعلى أعناقها كثير من التحصينات الأخر . وتنقل المياه من هناك قناةٌ جميلة، توصلها حتى صهريج ضخم، مبني على بعد نحو ثلاثة أرباع الميل من المدينة، ويتكفل بتزويد أهلها بماء حسن جداً…

تحيط بموضع المدينة الأسوار التي تبدو اليوم في حال بالغة السوء؛ وعلى الأخص في الوجه البحري الذي لا تزال فيه –مع ذلك- بعض المنصات القائمة على مسافات محددة من بعضها، وعليها خمس أو ست من بطاريات المدافع النحاسية التي تزن قذيفة بعضها ستين رطلاً …

لن أطنب في الحديث عن دخيلة هذه المدينة الكبيرة جداً والتي يرى فيها المرء كثيراً من البيوت الجميلة ذات الطابقين والأسقف المسطحة، لكن بها جميعاً أجـزاء متهدمة وأطلال مبان. إن من اليسير على المرء أن يدرك مما تبقى من عدن، ومن مزايا موقعها، أنها كانت في السابق مدينة زاهرة وعظيمة الأهمية والمنعة، وأنها كانت الحصن الرئيس للعربية السعيدة …

أعترف بأنني لم أر أجمل من حمَّامات هذه المدينة ومدافئها stoves، فهي مبطنة بالمرمر أو بحجر اليَشْب، ومغطاة بقبة جميلة ينفذ منها الضوء، وتزينها شرفات داخلية وتسندها أعمدة فخمة. والمبنى مقسم على نحو رائع إلى غرف، ومختليات، وغير ذلك من الحجرات المزودة بالعقود؛ وهي جميعاً تـؤدي إلى القاعة الرئيسـة التي تُظلُّهـا القبة …".

...

كانت تلك خاتمة الوجه الرائع من عدن. فقُبيل الاحتلال البريطاني –في 1835- يقول عنها ولستد Wellested:

" لم يبق من عدن الماضية غير بضع منارات ونحو مائة بيت، وبقايا غير متصلة من أسوارها؛ وما سوى ذلك تحتله المقابر والاستحكامات، وأكوام النفايات، أو جدران المساكن القديمة التي لا أسقف لها، أو الأحياء التعسة لسكانها الحاليين".

وفي عام 1838، يصفها هينز، المقيم (البريطاني) الأول فيها، بقوله:

"إن قرية عدن الصغيرة (التي كانت مدينة كبيرة، في الماضي) قد انحطَّت اليوم إلى أرذل حالات الفقر والإهمال. فقد كانت هذه المدينة، في عهد قسطنطين Constantine، ذات شهرةٍ لا تُجارى بسبب تحصيناتها التي لا تُخترق، وتجارتها الزاهرة، ومرساها العظيم الذي تؤمنه للمراكب القادمة من كل أرباع المعمور. لكن يا لها من مفارقة مؤسفة تلك التي يجسدها وضعها الحالي. إن المسافر، الذي لا يكاد يـرى أثراً من مجدها الزاهي القديم، لا ينظر إليها ويقدِّر قيمتها إلا بسبب الإمكانات التي يتيحها موقعها؛ ويتملكه الأسى من الجشع البربري لتلك الحكومة التي انحطت المدينة في ظل إدارتها الحمقاء إلى ما هي فيه من حضيض".

ويقول الكابتن هنترHunter، في وصفه عدن البريطانية عام 1877:

"تتألف مدينة عدن حالياً من نحو ألفين من المباني المطلية بالجير (النورة)، والمبنية بالحجر والطين، متفرِّعةً إلى شوارع وجادات؛ ويبلغ اتساعها، على وجه التقريب، ألفاً وأربعمائة ياردة . إن كثيراً من المنازل يتكون من طابقين؛ لكن ليس بينها ما يستحق الالتفات إليه بسبب من عمارته . والمدينة كلها قد أعيد بناؤها منذ الاحتلال البريطاني…

إن المبنى الوحيد المشتمل على قدر من الجمال، في كريتر، هو مبنى المحكمة ومقر الخزانة. أما مباني الثكنات فواسعة، لكنها ليست بالجميلة. ويتمتع مبنى الكنيسة البروتستانتية، الكائن على أحد التلال، ببعض الحق في أن يُذكَـر على نحو مشرِّف…

أما المنازل المحتشدة على غير نظام، والخاصة بالفوجين المعسكِرين في كريتر، فهي عملية ووافية بالغاية منها".

أصبح الرحَّالة أكثر ترداداً عليها، منذئذ. وأكتفي هنا باقتباس ما خطّه والتر هارِس Walter B. Harris في 1893:

"أي مشهد من مشاهد الإقفار والجهامة ذلك الذي تمثله عدن لأي زائر جديد! وأية سرعة تلك التي يبدأ بها -رغم كل ذلك- بمحبتها! (ثمّة) خلفية تشكلها الصخور المسودَّة الكالحة، وطريق ترابية، وسقيفة حديدية تبعث على الانقباض، تستظل تحتها نصف دزينة من العربات الكسيحة، بأحصنة هزيلة كسلى وسائقين صوماليين يفوقونها كسلاً؛ وقبة مبيَّضة بالجير على ضريح أحد الأولياء، ومن حوله اعتذار عن حديقة تضم بعض النبتات المنهكة التي تجاهد لكي تبدو خضراء تحت غطاء سميك من الغبار، وشمس يصيب حرُّها المرءَ بالإغماء؛ ثم هلال كبير تؤلفه مبان رديئة التصميم، لا يُستثنى منها سوى مباني بنك عدن الجميلة التي تمتد في مواجهتها ساحة رملية وأسيجة من الأوتاد الخشبية المتينة –تلكم هي محطة الفحم smile رمز تعبيري التواهي)، كما يراها المرء لأول وهلة" .

وفي 1923، يقول الكولونيل جَيكب Jacob:

"… لكن عدن لا تزال متخلِّفةً عن عصرنا بخمسين عاما. ويمكننا أن نرى لا مبالاة الحكومة رأي العين في هذه المستعمرة…

ليس هناك سوى قدر ضئيل من النظام أو التخطيط فيما يتصل بإنشاء المباني. وقلَّما تجد مبنى في عدن تتضمن عمارته جمالاً هندسيا. ولقد نزل بها أحد الخبراء ذات حين، وألمع إلى ما يتوجب القيام به، غير أن ذلك لم ينفذ".

...

ما أشجى أن يخلص المرء إلى أننا -مع كل ما أنجزناه في الشرق- قد تردَّينا في إثم التقصير في بناء شيء مما قد يكون شبيهاً بعدن الحديثة. ولسوف يتجمع لكم مما قرأته الآن من مقتطفات أننا كنا ندرك تمام الإدراك كيف كانت عدن القديمة؛ وندرك تمام الإدراك، أيضاً، أيةَ مدنٍ جميلة استطاع العرب إنشاءها من حولنا. ولو أننا التزمنا فقط بالتصميم الذي وضعه هينز، ثم شجعنا البانين من اليمن ومن حضرموت على التكفل بما تبقى، لكُنَّا قد توفرنا على مدينة جميلة وذات هويةٍ مميزة، تستحق ما لجغرافيتها من جلال؛ وإن لم تكن -من منظور الحداثة- تامة المدنية . إن ما يحتاجه هذا المكان هو: خطة تدرُّجية لإعادة البناء، تأخذ في اعتبارها الخصائص العمارية في الإقليم، والاحتياجات الخاصة بالمدينة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*جزء من محاضرة عنوانها: (الجنوب العربي: كما أراه، وكما أودُّ له أن يكون)، ألقاها السيد إنجرامْز في الجمعية الأسيوية الملكية، في 24 يناير 1945، وذلك بُعيد تقاعدهِ من الخدمة في مستعمرة عدن ومحميَّتها.