تاريخ الخرافات والأساطير العدنية ... بئر صيرة

2014-07-12 05:47
تاريخ الخرافات والأساطير العدنية ... بئر صيرة

قلعة صيرة - كريتر عدن

شبوة برس - متابعات عدن

 

هذا الجانب من تاريخ عدن، وهو المعتمد في حضوره على الذاكرة الشعبية، قليل منه ما هو محفوظ في صفحات الأسفار، ومنه ما غاب في قاع المجهول، برحيل من وعت وحفظت عقولهم ذلك الإرث من تاريخ الخرافات والأساطير العدنية.

 

هناك مثل أفريقي يقول: "كل عجوز يموت عبارة عن مكتبة تدفن"، فكم ابتلعت مقابر عدن من ذلك السرد مع من رحلوا من أهل هذه المدينة، وربما كانوا آخر من وقف هذا التاريخ عندهم.

 

من يعود إلى الكتب القديمة المدونة لتاريخ عدن، سوف يجد من هذا الزاد، ما يذهب بنا إلى رحلة في عمق الأزمنة، فندرك كم هي عدن قديمة العهود، فهي لا تخلو من الخرافات والأساطير مثل معظم الأوطان السحيقة في التاريخ، وها هو كتاب اليهود (العهد القديم) التوراة، تذكر فيه عدن مع قصة قابيل وهابيل بداية الخليقة، في سفر التكوين، بعد أن غضب الرب على قابيل لقتله أخاه هابيل، حينها أمره الرب بالسكن في شرقي عدن.. وفي هذا يقول صاحب كتاب (تاريخ ثغر عدن): "اعلم أن عدن بلدة قديمة، يقال إن قابيل لما قتل أخاه هابيل خاف من أبيه آدم ففر من أرض الهند إلى عدن، وأقام هو وأهله بجبل صيرة، وأنه لما استوحش لمفارقة الوطن وغيره تبدى له إبليس ومعه شيء من آلات اللهو كالمزامير ونحوها، فكان يسليه باستعمالها، فهو أول من استعمل ذلك على ما قيل".

 

ما تسوقه لنا ذاكرة هذه الأسفار يطرح أمامنا أكثر من تساؤل، ولعل أهمها هو: منذ متى عرفت عدن الخرافات والأساطير، إن الرد على التساؤل يظل في دائرة القصور، لأن وعي الذاكرة لا يمتلك مقدرة استعادة كل أدبيات السرد الشفهي في هذا الجانب.

 

يذكر المؤرخ الأستاذ حمزة علي لقمان في كتابه (أساطير من تاريخ اليمن) قائلاً: "نظراً إلى أن عدن كانت تتكون من أخدود هائل، كان بركاناً ثائراً في الأزمنة القديمة، فقد ألفت القصص والأساطير حوله.. ومن هذه القصص أن القديس (بار ثلوميو) زار عدن وهو في طريقه إلى هند، وأنه رأى أهل عدن واقعين تحت سيطرة الجن، يعبدون النار والشيطان، ويقدمون القرابين. وكان الشيطان يسكن بئراً يقال أنها تقع فوق جبل صيرة، ويقال إنها في شارع الزعفران.

 

وكان الناس يحصلون على مائهم من هذه البئر، وحين يجتمع الناس حول البئر كان الشيطان يصرخ من بطنها ويقذف باللهب، فيخر الناس سجداً.

 

وغضب القديس وقرر أن يحضر ويشاهد أعمال الشيطا، ولما رأى الشيطان القديس صرخ وقذف باللهب والماء، فوضع القديس عباءته حول وجهه وتقدم وهو يقول "بسم المسيح المنقذ ابتعد أيها الشيطان وليتجمد ماء هذه البئر"، وفي الحال انطفأت النار وفر الشيطان إلى غير عودة، وتجمد ماء البئر.

 

أما ابن المجاور فيورد من تلك الحكايات المتصلة بالأساطير الهندية حول عن ما يدل على أن الهجرات إلى عدن لم تنقل معها التجارة والأجناس، بل كان للثقافة الشعبية ما ورد منها على عدن، وفي هذا دليل على تنوع التراث الشعبي لهذه المدينة، ليس فقط في جانب الخرافات والأساطير، بل في أكثر من مجال تلعب فيه الذاكرة دور الخيال الممتد عبر الآفاق.

 

سطح قلعة صيرة

 

حيث يقول عن جبل صيرة: "بالجبل بئر تسمى عند حكماء الهند (بيران)، يخرج منها طول الحياة دخان، ويسمى الآن بئر (الهرامسة) ولا يمكن لأحد النظر فيها من وهج النار، وتوجد حجارة مكسرة، وأفاعٍ نائمات، وحيات قائمات حول البئر".

 

ومن الأساطير الهندية عن عدن، والتي كانت من الحكايات المعروفة في العصور الماضية يشير ابن المجاور إلى أن الجني ـ راون أو رافانا - قد سكن في عدن، وقد ذكر الهنود أن عدن كانت سجنا لداسا شور - أو دس سير - ذي الرؤوس العشرة، حيث كان أحدها له رأس غزال.

 

وكانت البقعة الممتدة من جبل الخضراء حتى جبل المنظر، ومن هناك على طول ساحل حقات وساحل صيرة حتى جبل حديد، عبارة عن سجن للجني (راون) صاحب الرؤوس العشرة.

 

غير أن هذا التاريخ من الخرافات والأساطير العدنية لا يقف في سردياته عند حقب الماضي، ففي كل فترات الأزمنة تقدم عدن ما يعوض عما غاب عن الذاكرة في هذا الإطار، فتأتي خرافات وأساطير تعيد لهذه الهوية ما تساقط عن الذات، بفعل تبدل الأحوال وغياب من كانوا حفظة ذاكرة الأمة، وتلك من صفات التراث الشعبي. حلقات من المخيلة تتوالد في الخيال والواقع لتصبح بصمات في الكيان، فهي ليس ما يقال من الوهم، بل سجل لأوضاع نفسية وخيالية تمر في الوجدان لتخلق هذا النوع من الفن.

 

نشرت مجلة عدن عام 1960م في عددها الثاني، وكانت تصدر عن هيئة مصافي عدن (BP) التي كان رئيس تحريرها الأستاذ الراحل حامد محمد علي لقمان، نشرت هذا الموضوع الذي عنوانه (الحواديث والأساطير الشعبية في عدن الصغرى)، وقد جاء فيه: "إن شبه جزيرة عدن الصغرى تزخر بالحواديث والأساطير الشعبية، وسكانها يستطيعون أن يرووا الكثير من هذه الحواديث والأساطير الغريبة، وذلك فيما يخص الجن والعفاريت الذين يقال عنهم إنهم كانوا يسكنون في الصخور والهضبات الرملية في البريقة التي احتلتها الآن المصافي ومداخنها ووحداتها المختلفة. إن سكان البريقة عاشوا يعملون في صيد السمك لأجيال طويلة.. وهذا يشرح ـ إلى حد ما وجود الأساطير الشعبية والحواديث الكثيرة، والتي يرويها بعض الأفراد بشغف بالغ.

 

إن الصيادين في جميع أنحاء العالم يروون أقاصيص وحكايات البحار، سواء أكانوا يصطادون السمك في سواحل بريتاني أو خلجان النوروي أو نيوفاوند لاند أو خارج خلجان قريتي بير فقم والخيسة.

 

وهذه الأقاصيص والحوادث والأساطير الشعبية ترتكز على فكرتين أساسيتين:

 

فالفكرة الأولى: هي ضرورة تهدئة البحار، التي تعتبر قوة في حد ذاتها، أو أماكن مأهولة بالأشباح والأرواح والجان، سواء أكانوا للخير أم للشر.

 

أما الفكرة الثانية: فهي لغرض تجاري محض، فهناك الحاجة الملحة لاصطياد أكبر عدد من السمك بأقل مجهود ممكن.. ويمكن تحقيق هذا الغرض التجاري بضمان تعاون تلك الأشباح الخارقة للعادة، وهي التي تسكن البحار وتتحكم في أحوالها وحالاتها. ولهذا السبب فإن عدن الصغرى تزخر بأقاصيص وحواديث الجان الذين لا يراهم الإنسان، والذين لهم القوة السحرية للتحكم على أشياء عديدة، بما فيها البحر وأسماكه.

 

إن هؤلاء الجان ـ كما يظهر من الأقاصيص والأساطير الشعبية ـ تظهر وكأنها حقيقة ملموسة أمام الناس والصيادين.. وتروى هذه الأساطير الشعبية من جيل إلى جيل.. وقبل أعوام قليلة كانت تقدم لهؤلاء الجان المأكولات باستمرار.

ضريح ولي الله الغدير في البريقة

 

وبما أن الأساطير الشعبية تقول إن الجان كانوا يتحكمون في البحر وسمكه، فكان لابد من أن يقدم لهم باستمرار نوع خاص من الأكل.. ولهذا فقد كان يجتمع في شهر سبتمبر ـ من كل عام ـ عدد كبير من الصيادين لشراء التمر ووضعه بالقرب من ولي الله الصالح أحمد بن أحمد عمر الزيلعي باسم (الغدير).. وبعد مضي أربعين يوماً سوف يحمل التمر إلى جهة أمام جزيرة (صليل)، حيث يسكن - كما تقول الأساطير والحواديث ـ الجني الرئيسي في المنطقة، ويعرف باسم (صليل الكبير)، ثم تقسم كمية التمر إلى قسمين: قسم يؤخذ إلى ولي الله الصالح (الغدير)، وثلاثة من الجان التابعين له، والقسم الآخر يؤخذ إلى ثلاثة آخرين من الجان الذين يسكنون في جبال عدن الصغرى.

 

وكان هناك أناسا مخصوصين يحملون هذه الكميات من التمر.

 

وكانت نفس هذه العملية تكرر في شهر يونيو من كل عام.

 

وبما أن الهدف من هذه الهدايا هو جعل الجن يفرحون، فإن الصيادين يتوقعون مجيء السمك بكثرة.

 

أما إذا لم تفلح هذه الطريقة فإنهم يلجأون إلى طريقة أخرى ألا وهي تحضير خروف أحمر وذبحه بالقرب من مخبأ الجني المعروف باسم (أبو قيامة)، بجانب ولي الله الصالح (الغدير).

 

ثم يأخذون هذا الخروف والدم ينزف منه مع كمية من السكر والتمر والحلويات والبخور ويرمونها إلى البحر.

 

وفي بعض الأحايين يذبح خروف ويرمى إلى عرض البحر مع بعض المأكولات، وذلك بالقرب من جزيرة (صليل)، والهدف التقرب إلى قلوب الجان.. ولكن إذا كان الجن لم يجذبوا السمك إلى قرب السواحل فإن الصيادين يطبخون بطريقة سرية جداً خليط من الدقيق المطحون وزيت السمسم، ويذهبون سراً بعد منتصف الليل إلى مكان يقطن فيه جني يدعى (الضربة)، وذلك بالقرب من محطة الكهرباء التي تدار بزيت الديزل في الطريق إلى مستشفى المصافي في البريقة.. ثم توضع الشباك على الأكل، وبعد ذلك ينثر الأكل في أماكن مختلفة من المنطقة، وهذه العملية تنتج عادة عن صيد وفير، وهذا هو ما يطلبه الصيادون.

 

والجان هم مخلوقات نارية أو هوائية ذكية جداً، لا يراها الإنسان، ولكنها تظهر في أشكال مختلفة لتأدية واجبات شتى تتطلب قوة كبيرة لعملها.. وهم مخلوقون من نار.

 

ومن الأقاصيص التي تروى أن بعض الجان من النساء يحاولون كسب قلوب الرجال من آدم، وذلك باستخدام جميع وسائل الإغراء.. وفي بداية الأمر تغري الرجال على حسب الحواديث، ولكنهم يكتشفون بعد ذلك أن النساء الجميلات الفاتنات الحسناوات هن من الجان، وأنهن يضمرن الشر، فيقرؤون سوراً من القران الكريم ومنها آية الكرسي.

 

ولا تزال في البريقة تروى قصة الجنية المشهورة (معجز)، فقد كانت يوما ما تمشي على شاطئ الغدير تمشط شعرها، ثم رآها صياد وأسرها.. وربطها إلى شجرة شائكة، قطعها بعده أربعة رجال.. ولكن معجز قتلتهم ثم تنقلت في البريقة.

 

ولإدخال البهجة إلى قلبها وليأمنوا شرها فقد ركز الصيادون جذع نخلة، وفي كل عيد أضحى يضعون عليه علماً جديداً.. ويقال إنها كانت تزور ذلك الجذع في فترات مختلفة.. وإذا مر أي إنسان بالقرب من جذع النخلة فإنه لاشك يشعر بالخوف والرهبة.

 

وجاءت المصافي لتغير وجه الصحراء إلى مدينة عامرة بالسكان.. وأزيح ذلك الجذع.. ولكن معجز ـ كما تقول الأساطير ـ ظلت تسكن في منطقة بير أحمد، حيث يحتفل بزيارتها في يوم 5 ديسمبر من كل عام.

 

بالعودة إلى الذاكرة الشعبية، وما روت من حكايات عن هذه الجنية، فهي تعد في عرف العامة "الجدة"، بمعنى (أم الجن الكبيرة)، التي يضع الكل حساباً لها ولمكانتها بين سكان المنطقة.

 

ومن حكاياتها مع الصيادين في تلك المناطق، أنهم خرجوا في أحد "الأيام" إلى عرض البحر مثل كل مرة، سعياً خلف رزقهم، غير أنهم ذهبوا إلى مسافة بعيدة في عرض البحر وغاب عنهم مسار العودة.

 

فما كان من كبيرهم إلا أن هتف بأعلى صوته "يا معجز، يا معجز، يا معجز"، وبعد قليل ظهرت تلك الجنية من أعماق البحر وأرسلت من عيونها ضوءا، وساروا على هذا المصدر، وكان الوقت ليلاً، حتى وصلوا إلى الشاطئ.

 

صهاريج الطويلة

 

من معالم عدن التي ارتبطت عند العديد من سكانها بحكايات الجن والشياطين والسحرة صهاريج عدن، ولكن هذا الجانب من التاريخ الشعبي لم ينل حقه من التدوين.. لقد كان بعض أهل عدن إن سألهم أحد عن من بنى الصهاريج، يكون الرد الجن، نظراً لقدم هذه الآثار، وما كان يحدث فيها من حوادث غرق لعدد من الشباب عندما تكون المياه فيها مرتفعة.. وقد عرفت في عدن في السنوات الماضية، قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، خرافة جنية بركة عنبر، التي كانت تخرج في المساء وتترصد أي رجل يسير منفرداً في منطقة الطويلة حتى يقترب منها، وتطلب منه أن يوصلها إلى منزلها، وكان شكلها على هيئة امرأة عدنية، ولكن إحدى ساقيها له حافر مثل حافر الحمار، وعندما يرى الرجل هذا يدرك أنها جنية بركة عنبر، وقد قيل إن بعض الرجال الذين وقعوا في شراكها منهم من أصابه الجنون، ومنهم من ظل يعاني من حالات نفسية لفترات من عمره.

 

صهاريج الطويلة ممتلئة بمياه الامطار

وفي العقود الماضية، كانت تمارس في صهاريج عدن بعض أعمال السحر، والدخول إليها بعد منتصف الليل لتحضير الجن.. وقد عرفت حكايات عن مارد يسكن صهريج أبو سلسلة، وقيل إن أحد الأشخاص شاهده في ليلة مظلمة، فكاد الرجل أن يجن نظراً لضخامة حجمه وشكله المرعب.

 

وهناك من الخرافات والأساطير المرتبطة بأولياء عدن، والمنازل القديمة والكنوز المدفونة فيها، وما تطلبه العفاريت الحارسة لها، وغيرها الكثير من هذا التراث الشعبي الذي يدخل في علم تاريخ معتقدات الشعوب، ولو تم جمع بعض هذا، لكانت لنا مؤلفات تعرض للباحث والقارئ.. كم هي غنية المخيلة العدنية في خلق مثل هذا التراث الإنساني.

* من الايام الصور من شبوه برس